بشيء من الاعتزاز والتفاخر، صرحت السيدة تجادا ماكينا، المسؤولة في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بأن بلادها تجاوزت ما تعهد به الرئيس باراك أوباما في مستهل ولايته الأولى بتقديم 3.5 بليون دولار لدفع عجلة التنمية الزراعية في الدول الفقيرة خلال الفترة بين 2009 و2012: «فالولاياتالمتحدة أنفقت 300 مليون زيادة على هذا التعهد المحدد عبر برنامج الغذاء للمستقبل، الذي أنشأه أوباما لأغراض تطوير الأبحاث الزراعية وتعزيز أحوال صغار المزارعين، ولا سيما النساء من بينهم، ورفع مستوى الدعم المالي للقطاع الخاص لتخفيض معدلات الفقر والجوع». وبعد أن أسهبت ماكينا في عرض أوجه إنفاق هذه الأموال الأميركية «الهائلة»، انتهت إلى رضائها تماماً عما تحقق من أهداف هذا الانفاق. في الوقت الذي كانت تزهو فيه هذه المسؤولة بسخاء بلادها على فقراء العالم وجائعيه بما يقارب الأربعة بلايين دولار، كان الرأي العام العالمي يطالع معلومات موثقة، تكاد معانيها تسمم الأبدان، منها بلا حصر: أولاً، تقرير لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام، يقول إن الولاياتالمتحدة تنفق نحو 700 بليون دولار سنوياً على مؤسستها العسكرية، وهذا يعادل 43 في المئة من مجموع الإنفاق العسكري العالمي، وأن حصتها تبلغ نحو 30 في المئة من جملة صادرات الأسلحة على كوكب الأرض. ثانياً، دراسة أعدتها إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة، أن ثمة 925 مليون إنسان يعانون في عالمنا من الجوع، الذي تتجاوز ضحاياه كل عام عدد ضحايا أمراض الإيدز والسل والملاريا مجتمعة. ثالثاً، بيان صادر عن الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، يحذر من أن أكثر من ستة ملايين شخص في زيمبابوي ومالاوي وليسوتو وأنغولا، يواجهون خطر النقص الشديد في الغذاء بسبب دورات الجفاف والفيضانات المتكررة، وأنه رغم خطورة هذه الأزمة، فإن الاهتمام الخارجي بها يبدو ضعيفاً، حتى أن «... الدعوات والمناشدات التي أطلقت لتقديم الدعم المالي لم تلق سوى استجابة محدودة للغاية». رابعاً، معلومات أطلقها البنك الدولي حول الفقر في المجتمعات الغنية، تفيد بأن 30 مليوناً من الأميركيين يقعون فعلاً تحت خط الفقر. وتزامنت هذه الإفادة مع تحقيق نشرته مجلة «تايم» الأميركية عن فيلم وثائقي بعنوان «مكان على المائدة»، يفضح تفاقم مشكلة الجوع وسط كثير من الأميركيين، إلى درك أدنى بكثير مما يذكره البنك الدولي: «هناك نحو خمسين مليون أميركي، بمن فيهم طفل واحد من كل أربعة أطفال، لا يجدون قوت يومهم، نظراً الى الفقر وعدم كفاية برامج المساعدة الغذائية وارتفاع كلفة الغذاء الصحي». مؤدى ذلك كله بلغة الأرقام أن الولاياتالمتحدة أنفقت على برنامج أوباما الغذائي التنموي الإغاثي في ثلاث سنوات، ما لا يزيد كثيراً على النصف في المئة قياساً بما تنفقه على مؤسستها العسكرية في عام واحد. هذه حقيقة تثير الاستهجان، والسؤال عما إذا كانت مسؤولة هذا البرنامج تعي أو تعني حقاً ما تقول عندما تفاخر بحجم الأموال المخصصة له؟ من أين أتتها جرأة الاعتقاد بأن برنامجها حقق أهدافه بهذه المبالغ الزهيدة؟ إلى ذلك، كيف يتأتى لنا أن نستشعر جدية التوجه الأميركي لمحاربة الفقر والجوع في أصقاع جنوب آسيا وسواحل المحيط الهندي ومجاهل أفريقيا، بينما يعيش ما بين 30 و50 مليوناً في عقر الديار الأميركية تحت طائلة الفقر أو الجوع أو كليهما معاً؟ يعلم أهل الاختصاص أن توظيف نحو 35 بليون دولار سنوياً، أي 5 في المئة من موازنة الدفاع الأميركية، لإنشاء مشاريع إنتاجية غذائية في الدول ذات المسغبة، يكفي للقضاء على الفقر والجوع في العالم بأسره. وتقديرنا أن هذا الواجب الإنساني يتعلق بذمة الولاياتالمتحدة في شكل استثنائي، لكونها القوة الأكثر اضطلاعاً بالإنفاق على التسلح والجهوزية للحروب، بل خوض الحروب فعلياً، بدعوى إشاعة الحريات وحقوق الإنسان حول العالم. لا يمكن لعاقل الإدعاء بأن اقتطاع 5 في المئة من هذا الإنفاق سوف يعرض الأمن القومي الأميركي للخطر، لكن أقل الناس رشداً يدرك الصلة العضوية بين الفقر والجوع وبين غياب الحريات وانتهاك حقوق الإنسان وإهدار آدميته إلى حد الموت. ومع ذلك، فإن وزير الدفاع الأميركي السابق ليون بانيتا، تبجح قبل مغادرة منصبه في شباط (فبراير) الماضي، بتوصية أخيرة مفادها «عدم ضغط موازنة البنتاغون، لأن ذلك سيحدث أزمة كبيرة للاستعدادات العسكرية الأميركية على مدى السنوات العشر المقبلة»! من الواضح أن نخب الحكم والسياسة والاقتصاد ورأس المال الأميركية تفضل نشر الحريات وحقوق الإنسان بالحديد والنار، وليس ببرامج التصدي الحازم للفقر والجوع داخل الرحاب الأميركية وخارجها. فمثل هذا التفضيل يسمح بتضخم جيوب أصحاب المجمع الصناعي العسكري. وربما كان الفتات الذي يلقي به هؤلاء لبرامج الغذاء والإغاثة والإيواء عالمية الطابع، إحدى وسائل إبقاء ملايين البشر معلقين على حافة الحياة، ليموتوا في الحروب التي تغذيها منتجات هذا المجمع وابتكاراته الجهنمية. * كاتب فلسطيني