من المثير للعجب والاستغراب أن يستمر هذا الجمود الفلسطيني عل كل الصعد ويتواصل الصمت الرهيب حول كل ما يجري داخل فلسطين وخارجها وفي المنطقة العربية في شكل عام: لا مبادرات، ولا تحرك جماهيري، ولا وجود سياسي فاعل، ولا حركة عربية جدية وكأن القضية الفلسطينية، التي كانت توصف بالقضية المركزية الرئيسة والأساسية، قد طواها النسيان، وأن رديفتها أزمة الشرق الأوسط قد نامت في أدراج المحافل العربية والدولية. كيف يستمر هذا الجمود ونحن نشهد تخاذلاً دولياً، وضياعاً عربياً، وعربدة إسرائيل تأكل الأخضر واليابس وتطاول كل مفاصل القضية: قضم يومي للقدس الشريف بإقامة المزيد من المستعمرات الاستيطانية وتوسع عمليات التهويد في البشر والحجر وإقرار مشاريع جديدة سيؤدي تنفيذها إلى دق المسمار الأخير في نعش المدينة المقدسة ومحو هويتها العربية الإسلامية – المسيحية المقدسة وصورتها المشرقة كمدينة سلام وتعايش وحضارة مجيدة. التهديد المتواصل والمتصاعد والمنهجي المدروس للمسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وترتيب موجات من المد والجزر خلال فترات زمنية متقاربة للترويج لمؤامرة هدم المسجد الذي بارك الله من حوله وبناء الهيكل المزعوم. وعلى رغم فشل كل الجهود وأعمال التنقيب الإسرائيلية للعثور على آثار الهيكل أو أية مؤشرات عن وجود آثار يهودية، فإنها باءت بالفشل فعمدت السلطات الاستعمارية إلى حفر الأنفاق وتعريض الأساسات لخطر الانهيار كجزء من المؤامرة وكخطوة أولى تليها خطوات منع إعادة إعماره والسيطرة عليه لفترات من الزمن قبل تنفيذ الخطوة النهائية. وقد تابعنا عن كثب قبل أسابيع فيلماً وثائقياً افتراضياً يصور مسجد قبة الصخرة المشرفة وقد زال أثره ليظهر مكانه هيكل سليمان المزعوم. التهويد المنهجي للضفة الغربيةالمحتلة بإقامة المستعمرات ومصادرة المزيد من الأراضي والتضييق على الأهالي أصحاب الحق والأرض والشرعية. توالي قدوم الحكومات اليمينية المتطرفة التي ترفض أي بحث في السلام وتعمل على إلغاء كل مفاعيل اتفاقات أوسلو ووجود السلطة الوطنية الفلسطينية والترويج لحلول كنا نظن أنها طويت منذ زمن، مثل إعادة تسليم ما يتبقى من الضفة الغربية إلى الأردن لضمها إليه في مقابل تسليم قطاع غزة لمصر في خطوة مماثلة أو اقتراح قيام كونفيديرالية أردنية – فلسطينية وصولاً إلى مؤامرة الوطن البديل في الأردن، ما يعني عملياً دفن حلم قيام دولة فلسطينية مستقلة متواصلة الحدود والأطراف عاصمتها القدس الشريف. في المقابل، نجد أن الانقسام الفلسطيني لم يعالج جدياً بعد، وأن المصالحة تحتاج إلى مزيد من البحث والتدقيق والحوار من دون أن نفهم لماذا؟ ولمصلحة من؟ وماذا ينتظر أصحاب القرار في غزة والضفة، وبين حركتي «حماس» و «فتح». وفيما يشتد الحصار وتتواصل فصول المؤامرة الصهيونية، نشهد جموداً عربياً مقابلاً لا يبشر بالخير ولا يفتح باب الأمل بالعودة إلى المنابع والأصول والإيمان بأن عدم إيجاد حل عاجل وعادل للقضية الفلسطينية سيؤجج نيران الأزمات في المنطقة، ويدفع إلى انفجار أو زلزال مدمر في أية لحظة، لا سيما في حال حصول المنكر الأكبر وهو هدم المسجد الأقصى المبارك أو تعريضه لخطر حائل. ولهذا كله لا بد من تحرك فلسطيني غير عادي بعيداً من المجاملات والديبلوماسية وانتظار الترياق من العرب أو من الأجانب، وكما يقول المثل: لا يحك جلدك سوى ظفرك، ولا ينفعك أحد إلا نفسك... أي إبدأ بنفسك أولاً وقم بالواجب لأن «الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، وإلا فإن أصحاب القضية يساهمون بدفنها ويصنعون بأيديهم نهايتها. فالوقت من ذهب، وكل يوم تأخير يعطي إسرائيل المزيد من التهويد والمزيد من بناء المستعمرات الاستيطانية ومن ثم المزيد من الوقت لإسدال ستار النسيان على أكثر القضايا في التاريخ ظلماً وقهراً وأشدها عهراً وتمثيلاً لانتصار الباطل على الحق والتزوير والتزييف على الشرعية. ففي غياب الحلول والمبادرات وانحسار الآمال بتحقيق أي خطوة لكسر الجمود، لا بد من تحول فلسطيني شعبي شامل ومنظم طابعه التام سلمي يبعد عن التهور والأعمال الإرهابية وكل عمل آخر فيه عنف يستغله الأعداء ويتاجرون به لضرب إسفين آخر والزعم بأن معركة إسرائيل هي ضد الإرهاب وليس ضد شعب حر يطالب بحقوقه الشرعية وتحرير أراضيه المحتلة واستعادة هويته الوطنية الفلسطينية التي حاول العدو طمسها من دون جدوى طوال أكثر من 64 عاماً ونيف. باختصار شديد، ومن دون التدخل في التفاصيل الدقيقة، لأنها من شأن الشعب الفلسطيني، لا بد من قيام ربيع فلسطيني سلمي شامل يجابه العدو الغاشم بالصدور العارية وأغصان الزيتون يبدأ بمسيرة مليونية تتجه نحو القدس الشريف. وهذا العمل الوطني التاريخي الكبير يحتاج إلى تحضير تام وإعداد مدروس وتخطيط لكل شاردة وواردة وحذر شديد من تحوير المسار أو الانحراف عن الخط المرسوم وهو الخط السلمي القائم على اللاعنف. ومن الخطوات الأولى المطلوبة إتمام المصالحة الوطنية وإعادة توحيد الضفة وغزة واتفاق جميع الفصائل وعلى رأسها «فتح» و «حماس» على كل التفاصيل والتنسيق مع فلسطينيي الشتات وتأمين التمويل اللازم لمثل هذا التحرك من رجال الأعمال والمتبرعين الفلسطينيين والعرب. ورسم خط المسيرة ومضمون اللافتات والهتافات، والتنسيق مع عرب الداخل وضمان الدعم العربي ومظلة المنظمات الإنسانية والأهلية والدولية، وإعداد خطة إعلامية شاملة تقوم بالتمهيد للتحرك وكسب الرأي العام العالمي، ومن ثم تأمين حضور أكبر عدد من أجهزة الإعلام العربية والأجنبية لمواكبة جميع فعاليات هذا التحرك. وقد يقول قائل إن هذا الاقتراح عاطفي ومثالي صعب التنفيذ ومستحيل الاستمرارية. ونجيب عليه بالتساؤل عن الربيع العربي ومن كان يتوقع كل ما جرى من أحداث وتغييرات مزلزلة وما أظهرته الشعوب من جرأة وشجاعة وصمود ومثابرة وإصرار على المضي في حركاتها حتى تحقيق الأهداف المرجوة على رغم الانتكاسات ومحاولات بعض الأطراف لركوب الموجة واستغلالها للقفز على السلطة والاستئثار بها والهيمنة على الأوطان. وبعيداً من كل حركات اللاعنف من المهاتما غاندي إلى نيلسون مانديلا، لا بد من أن نذكّر بالإنجازات الكبرى التي حققتها الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية وأولها الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه وهويته، وثانيها كسب تعاطف الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي. ولولا الانحرافات والانتكاسات، وأعمال العنف وصولاً إلى زلزال تفجيرات نيويورك وواشنطن وما تبعها من حرب عالمية على الإرهاب، لتحققت كل مطالب الشعب الفلسطيني ولما تمكنت إسرائيل من استغلال هذه الفرصة لنسف مسيرة السلام والتنكيل بالشعب الفلسطيني والمضي في مؤامرة التهويد. ومهما قيل في هذا المجال، فإنه لا بد من توفير الفرص لتحرك جديد وحشد الطاقات لإنجاحه ضمن مسيرة ربيع فلسطيني شامل. ومهما حاول البعض وضع العصي في الدواليب والتقليل من أهمية هذا العمل، فإن من واجبنا طرح الاقتراح وتشجيع أي نهج يحيي القضية ويعيد ضخ الدماء في جسدها المتهالك بفعل الضربات المتلاحقة التي تلقاها خلال العقد الماضي. ومهما حاولت إسرائيل، فإنها لن تستطيع قمع مثل هذه المسيرة السلمية أمام أعين العالم ومسامعه. فماذا يمكن أن تفعل؟ هل ستطلق النار على المتظاهرين؟ هل ستقصفهم بالطائرات والدبابات والمدفعية؟ كم ستقتل منهم؟ مهما سقط من الشهداء، فإن دماءهم لن تذهب هدراً وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة وهو ممهد بأجساد الشهداء ومعبّد بدماء الأبرياء، ومهما تجبرت إسرائيل، فإنها لن تنجح في قمع أطفال ونساء ورجال يسيرون بسلام ويهتفون للحرية والكرامة. ولضمان نجاح مثل هذا التحرك، لا بد من مواكبته بحشد الطاقات العربية والقيام بتحرك سياسي ديبلوماسي عربي وعالمي يعاد فيه طرح مبادرة السلام العربية التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وأجمع عليها العرب في قمة بيروت التاريخية. والمطلوب الملحّ هو تشديد الضغوط لإنجاح التحرك وإحياء مسيرة السلام. والأجواء مهيأة اليوم لمثل هذا التحرك السلمي، بعد فوز الرئيس أوباما بولاية ثانية واقتناع الدول الغربية بوجوب إحلال السلام في المنطقة منعاً لقيام حركات متطرفة، وتأييد روسيا والصين للمبادرة وإجماع العالم على التنديد بسياسة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة ومضيها في الغي والاستكبار وعودة الحديث بقوة عن حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. نعم إنها محاولة لتحريك الجمود وكسر الجليد والرد على المؤامرة الصهيونية الكبرى. فالشعب الفلسطيني لن يخسر منها مهما جرى و «الحركة بركة» والربيع الفلسطيني آتٍ إن آجلاً أو عاجلاً والأفضل أن ينجح سلمياً ومن ينتصر لحقه وينصر الله ينصره. * كاتب عربي