الأعداد الغفيرة من الجماهير التي صاحبت معرض الكتاب بالرياض، وبخاصة التجمّعات النسائية منها، هل كانت مؤشراً يتجه إلى تغيّر في النظرة الثقافية للمشهد العام؟ الجواب يحتمل النعم واللا معاً. فنعم لبعض من سرت في دمه عدوى القراءة والاطلاع، ويتحين الفرصة لتلك المناسبات التثقيفية لعله يتصيّد كتاباً هنا ومنشوراً جديداً هناك. والجواب السلبي بلا ويعني أن الصورة لا تبشِّر بتغيير جدِّي وإن بدت على عكس ذلك. فتلك الأرقام الزائرة لا يخرج أصحابها عن فضولهم المعتاد والتحاقهم بالموجات المستجدة. فاليوم معرض الكتاب، وغداً حلبة الريم وسباق السيارات، وبعد غد مهرجان الحِرَف والأكلات الشعبية. وهب أنك رأيت القوم محملين بأكوام الكتب، وهب أنهم ابتاعوها، فهل يعني ذلك أنهم سيقرؤونها لاحقاً؟ أو أن سابقتها من الأعوام الماضية قد قُرئت أصلاً؟ وهكذا يفرغ كل حدث مهم من محتواه ليعدو مجرد إطار لحشو أجوف. في رسم كاريكاتوري لفتاة اجتهدت في الحصول على توقيع الكاتب (لا تستبعد أن يكون ضمن الكائنات التويترية من جملة زبائن المواقع الافتراضية) تنسخ الفتاة الصفحة التي عليها التوقيع وتسارع من مكانها (وربما بلقطة تصوير سريعة بجوالها) في عرضها على بقية الشلة الافتراضية على النت، ثم ترمي بالكتاب خلفها بعد أن أدى غرضه وانتفى السبب لامتلاكه. وهو تجسيد واقعي لما يدور في حياتنا اليوم. على أن الناس في بلدنا معذورون، فأية فرصة تسنح لهم للخروج وتغيير النص الروتيني لنهارهم، ولو كان في تجمّع لا علاقة لهم به ولا بأهله، فأهلاً به طالما أنه سيجلو عنهم شيئاً من قتامتهم وحدة رتابتهم. لذلك أقول لكل مستثمر في السعودية: ستربح الكثير بأفكار مبتكرة لمشاريع تمتِّع الناس وتشغل أوقاتهم. فمن الواضح تعطش الجماهير للانطلاق من نطاقاتهم الضيقة التي حشروا بها سنين من أعمارهم. «والعمر فيه كم يوم!» فلا أقلها أن نقضي ما بقي منه ببعض الانعتاق من تفاسير غيبية أو مادية لم تعد تقنع إلا السذّج. وإليك السيل العرم من فتاوى صدقناها ثم قيل لنا عفواً لقد تراجعنا عنها. من أصعب أمور الحياة أن تثق وتؤمن وتسامح. أمّا الحب فلا يعيش في غياب الثقة. لذلك نحن لا نعرف الحب، ولكننا خبراء في التظاهر به. وقس عليه! حتى غدت حياتنا حافلة بما يجب أن يكون عليه الشيء، وليس بالشيء نفسه. فعلينا أن نوجد في معرض للكتاب للتظاهر بالثقافة، وليس لأننا مثقفون أو أنها تعنينا. علينا الحديث بلسان عذب وصياغة عبارات التودد والسؤال عن الصحة والأبناء، ليس لأن الجواب يهمنا، ولكن لأن مظهرنا هو لعبتنا. فأين الصدق في ما نقول ونفعل ونتنفس؟ أين حقيقتنا في ما نريده وما لا نريده؟ لماذا تغرينا سياسة العوام فنذهب في طريقها بلا وقفة مع أنفسنا وسؤالها عن سياستها هي؟ أم أن الاختلاف لا يكون إلا في الانحراف عن الجادة؟ خلافاتنا معناها أننا لا نؤمن باختلافاتنا. ولكن مهلاً لقد تعلّمنا أن السلام يعني أن أوافق وغالباً أوافقك. فصار من الأسهل علينا أن نتبع على أن نقود. من أن نكون لوناً واحداً على أن نكون ألواناً متنوعة، حتى بات الخروج عن اللون يخيفنا ويحرجنا. ولأن المرء لا يفتأ يتصالح مع قناعاته، فقد تصالحنا مع طريقتنا في الاتِّباع فلم تعد تزعجنا، بل وعلى استعداد للدفاع عنها باستماتة، فتحوّل السلام بالموافقة إلى الحرب للموافقة. ومن فلسفة التبعية نتبع أية موجة صاعدة، ونتركها عند هبوطها لموجة أخرى غيرها. والأسوأ من هذا كله حين يتبنّى الصعود والهبوط من بيدهم مفاتيح المال لا كنوز العقل. وهي ليست معركة تحديث وتقليد، أو تحرّر وتزمت في التحليل الأخير، ولكنها قضية وعي وعقل، فهذا وعاؤك أنّى تملؤه، وأنى هي للمكان والزمان والكيفية، فأين تضع وعاءك؟ ومتى تضعه؟ وكيف تضعه؟ إن أجبت عن الأسئلة بوضوح ورؤية فلا بد أن يعتريك تغيير جذري ستشعر به وإن تجاهلته، وإن لم تعرف كيف تجيب، فاعمل على أن تعرف، ثم اذهب عقبها إلى أي مكان تختاره عن وعي وإرادة حرة، وإن كان للقطب المتجمِّد. كاتبة سعودية [email protected]