«كاستيليو ضد كالفن، أو ضمير ضد العنف»، هذا الكتاب الذي نشره ستيفان تسفايغ عام 1936، والذي ترجمه مؤخراً إلى العربية بألمعيته المعهودة، الكاتب اللبناني فارس يواكيم، وصدر بعنوان «عنف الديكتاتورية»، يشرّح في ذكاء ثاقب ما يمكن الاصطلاح عليه: الديكتاتورية الدينية، رغم أن كل الديكتاتوريات هي دينية بشكل أو بآخر، حتى تلك التي قامت ضد الدين. إننا أمام كتاب يتحدث عن الحاضر ويخاطب المستقبل، حتى وإن كان موضوعه كالفن، أحد مؤسسي المذهب البروتستانتي في أوروبا. كالفن هذا، لا تخلو منه ثقافة، وقد لا يخلو منه بلد، وكثيراً ما تقوده الحرية أو الثورة أو الديموقراطية وصناديق الاقتراع إلى السلطة، فلا من نظام محصن ضده، بل ولا من عصر. إنه نموذج فكري ينتمي إلى تلك الجماعة من الناس التي درجنا على تسميتها بمحسّني البشرية، الطوباويين، أنصاف الآلهة، الأخ الأكبر، أمين القومية، المرشد الروحي وغير الروحي، أولئك الذين ينتصرون لحقيقة واحدة ولا يتحملون سماع صوت آخر غير صوتهم، وهم مستعدون لأن يضحوا بكل الشعب من أجل مبدأ واحد ووحيد قد لا يؤمن به أحد غيرهم، ولعلهم لا يؤمنون به في قراراتهم. لكن ما قيمة هذا المبدأ، هذا المثال العظيم أو هذه السردية المقدسة، إذا كان الإنسان حطبها؟ باسم المسيح، طالب كالفن سكان جنيف الأحرار، ومن بعد جنيف سكان أوروبا، بالخضوع للكنيسة، التي لم تكن سوى كنيسته هو، فأعاد عن وعي أو غير وعي، قصةَ القمع الكاثوليكي للبروتستانت، وبعث بشخص إسباني اسمه سيرفيت، كان يشكك في الثالوث، إلى المحرقة، ودائماً باسم العقيدة نفسها وباسم المسيح عينه الذي ظل سيرفيت يردد اسمه وقد بدأت النار تلتهم أشلاءه. فبحسب مفهوم كالفن، كتب تسفايغ، «لا تملك الكنيسة الحق فقط، بل عليها الواجب أيضاً، أن تلزم الناس بالطاعة المطلقة غير المشروطة، بل وأن تعاقب بلا هوادة ذوي الحماسة الباردة». إلزام وعقاب وحقيقة واحدة، إنه منطق كل ديكتاتورية دينية، «فالإنجيل هو البداية وهو النهاية، وكل قرار فصل في كل المواضيع يجد أسبابه في كلمة الإنجيل المكتوبة». اللذة في هذا العالم خطيئة وحرية الإنسان كذلك، والفن «فيض قيحي مقيت»، «لا موسيقى، لا عزف على الأرغن خلال القداس!»، وكل شيء يذكر المؤمن بالحياة ويصرفه عن خدمة الرب، دنس يتوجب التخلص منه. كان بلزاك على حق، وهو يكتب بأن اللاتسامح الديني لدى كالفن أشد تماسكاً وشراسة من اللاتسامح السياسي لدى روبسبيير. إن الأمر يتعلق بفكر يحشر أنفه في كل صغيرة وكبيرة، يحدد لباس المؤمن وعدد وجباته الغذائية والكتب التي عليه أن يقرأها ويحسب حركاته وسكناته، وتجده أشد حقداً وعنفاً ضد أولئك الذين اختاروا التسامح واقتسام الحقيقة مع الآخرين، والذين رفضوا القتل منهجاً للدفاع عن العقيدة. «ليتقبل أحدنا الآخر، ولا يدين الواحد عقيدة الآخر»، كتب سيبستيان كاستيليو إلى كالفن، وعلّق تسفايغ على كلامه قائلاً: «دائماً يخاطب العقائديون الآخرين وكأن هؤلاء تلاميذ أو خدم، بينما يخاطبهم ذوو النزعات الإنسانية من رجل إلى رجل، من إنسان إلى إنسان». وهذا بالضبط ما فعله كاستيليو ومن بعده تسفايغ وقد بدأ الشبح النازي ينشر سدوله على القارة العجوز، ولربما هو ما يجب أن ننجزه اليوم والظلام يحدق بنا من كل ناحية. * كاتب مغربي