يرتفع صوت الشكوى من كثيرين ممن رحبوا بالثورات العربية وشاركوا فيها ودعموها منذ عامين. يعلن البعض ان هذه الثورات تفتقر الى الرؤية والأيديولوجية والى الشخصيات القادرة على قيادة المرحلة، ويقول آخرون: نجح الشباب في إسقاط نظم سلطوية ولكن لا احد يبدو قادراً على رسم درب نسير عليه في اتجاه هدف ما. هل نفد صبرنا بسرعة؟ كم يستغرق التحول الديموقراطي من الوقت؟ وإذا كنا نعني بالتحول نهاية الركود الملازم لأنظمة سلطوية جثمت على بلادنا عقوداً طويلة وبزوغ مجتمعات ديناميكية، فذلك التحول قد يستغرق حياة جيل بكاملها. فبينما توفر الأنظمة السلطوية طريقاً واحداً واضح الانحدار ويفتقر للإبداع، فإن المسارات الثورية وعرة وعسيرة ومليئة بالصعاب والعقبات، ذلك لأن الثورات أينما قامت تفجّر طاقات تفوق بحجمها وتأثيرها ما يكون قد جال في مخيلة القوى التي أشعلتها، واذا اعتقدت قوة سياسية بعينها أنها قادرة على السيطرة على هذه الطاقات وإدارة العملية بمفردها، فستدفع ثمن هذا الوهم. عندما نقرّ بأن المسارات الثورية هي التي تصنع نفسها وأنها قد تخرج علينا (وبنا تأكيداً) بابتكارات تنظيمية جديدة ربما تكون تنويعات على الديموقراطية، وانها قد تهدينا قادة جدداً لم نكن نتوقع انهم يحظون بمقومات القيادة (لأن مفهوم القيادة نفسه يتغير)، عندها نكون قد بدأنا باستيعاب عمق الانقلاب الذي تعيشه مجتمعاتنا. وقد يشكل ذلك بداية طريق نمضي فيه ونجرب خيارات قد نتراجع عنها في ما بعد. قد نخوض تجارب خاطئة قبل ان تتضح لنا جوانب الطريق. ولعل الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه المحللون والباحثون الآن من اجل إنارة هذه المسارات ليس تقديم الإجابات واقتراح الطرق على الشعب، فقد مضى هذا العهد، ولكن طرح الأسئلة الصائبة. هل تمثل مرحلة التحول التي نمر بها الآن فترة استثنائية لأنها اللحظة التأسيسية للدولة والمجتمع الجديدين؟ ومن هذا المنطلق فهل يجب أن تحكمها قواعد ومعايير خاصة؟ هل نروج لنموذج معيّن من العمل لبناء مؤسساتنا عندما نشرع في كتابة دستور أو بناء مؤسسات للدولة الجديدة؟ هل نعتبر حكم الأغلبية العددية كافياً لإضفاء الشرعية على المؤسسات التي ترسم إطار الدولة وطبيعة النظام السياسي، أم أننا يجب أن ننظر لما فعلته مجتمعات أخرى في فتراتها الانتقالية وهو وجوب تمثيل جميع القوى السياسية ومكوّنات المجتمع في مثل تلك الهيئات التأسيسية مهما قل عددها أو نسبتها في المجتمع؟ في تونس ومصر واليمن وليبيا -وحتى ضمن المعارضة السورية التي ما زالت في معركتها ضد نظام مجرم- يصطدم خطاب التوافق الوطني وإعلاء المصلحة الوطنية فوق الاعتبارات الضيقة بالمكاسب والحسابات الحزبية أو الشخصية للمجموعات السياسية المختلفة، فهل نأسف لهذا الواقع ام ننسى لحظة الرومانسية الثورية ونسلّم بان هذا هو جوهر الديموقراطية السياسية وهكذا تسير معظم المجتمعات؟ هل القوى الديموقراطية، والليبراليون، والعلمانيون، واليساريون مجموعات من المثاليين سياسياً يحاولون تطبيق ديموقراطية نموذجية على غرار الديموقراطيات المستقرة في الغرب؟ هناك فجوة بين من يعتبرون أن الصرح الديموقراطي الجديد يجب ان يبنى حجراً حجراً وفق خطة هندسية موضوعة مسبقاً من ناحية، وبين القوى المحلية، وخاصة الإسلاميين وغيرهم من الجماعات التقليدية، الذين يريدون تشييد بناء على اساس ما يعتقدون انه الحقائق الاجتماعية في بلدانهم. المجموعة الأولى مشغولة بصياغة خطة مثالية بينما المجموعة الأخيرة تستعمل طرقاً سياسية ملتوية من اجل ترويض المجتمع وتطوير آليات للسيطرة عليه. يقوم الإسلاميون والتقليديون برشوة الناخبين بالخدمات والبضائع ويحشدون جماهيرهم لاستعراض القوة وقت الحاجة ويدخلون في تحالفات تكتيكية مع القوى المعادية للثوار من اجنحة الدولة العميقة، يفرضون رموزهم على الإعلام، يخترقون الاتحادات العمالية ويصوغون قوانين تقيّد الحريات وتمس استقلال القضاء. من وجهة نظرهم هم يمارسون السياسة على ارض الواقع ولكن من وجهة نظر الفريق المقابل فانهم متهمون بخلق بيئة غير ديموقراطية في السوق السياسي حيث تفتقر قواعد المنافسة للنزاهة والإنصاف. يعتقد البعض ان الطمع الذي أبداه الإسلاميون في الوصول إلى السلطة يقلل من مصداقيتهم ولذلك يجب أن يتركوا لتحمل كل العواقب، والبعض الآخر يقول ان المجتمعات لا تستطيع تحمل هذا، فالاقتصاد على وشك الانهيار والمخاطر الأمنية في تزايد والثمن الذي تدفعه الشعوب صار باهظاً. كيف يمكن في هذا المناخ أن نحافظ على قواعد الديموقراطية السياسية؟ ان لم يكن هناك طريق مختصر حتى نصل الى ديموقراطية مستقرة فكيف يمكن على الأقل ان نحمي بعض القطاعات الحيوية في الدولة من تغوّل السياسات السلطوية مرة اخرى؟ طالب البعض مثل رئيس وزراء تونس بتكوين حكومة تكنوقراط (خبراء) بدعوى ان ذلك يحقق المصلحة العليا الوطنية. ما هي الشرعية التي سيحكم بها التكنوقراط؟ نتفق جميعاً على ان الشعوب عندما قامت بالثورات لم تواجه قوات الشرطة من اجل اقامة دولة اسلامية او علمانية، وانما من اجل الحرية بالاضافة الى الحق في الحياة الكريمة والوظيفة والسكن وبناء اسرة ومستقبل. وفي اغلب الظن ستحصل أي حكومة تعمل على تحقيق هذه المطالب على شرعيتها إذا نجحت في ادائها. ولكن هل يمكن ان تنجح حكومات التكنوقراط، ام ان مثل هذه الاختيارات السياسية الضخمة والسياسات المثيرة للجدل تحتاج للاحزاب والمجموعات السياسية المستندة على دعم وسط قطاعات من الشعب؟ هذه عينة من الأسئلة المطروحة علينا في بحثنا عن الاستراتيجيات الصحيحة. وهنا يأتي دورنا في المؤسسات البحثية العربية في تحفيز النقاش بين المفكرين والنشطاء والسياسيين حول دور الدولة وأساليبها في التعامل مع المطالب الاجتماعية وقدرة المجتمع المدني على مراقبتها ومساءلتها ودور الجيش والأمن في مجتمع حر ومسؤولية الحكم السياسي في إدارة التنوّع الثقافي والقومي والديني والعديد من الأسئلة الأخرى، للوصول الى رؤى أصيلة واجندات محلية قائمة على ترسيخ التغيير واحتضانه وليس الركود (في ثوب الاستقرار). المهمة الأولى في هذه المرحلة هي توفير مساحة محايدة تستطيع ان يجتمع فيها كل الأطراف لتبادل الآراء بعيداً من الحسابات الانتخابية والمكاسب التكتيكية. قد لا نستطيع ان نتجنب الأخطاء بالرغم من هذه المعرفة ولكنها سلاحنا لفهم ما يحدث حولنا وصمام أمان ضد اليأس من المستقبل، الذي وبالرغم من وعورة الطرق اليه، يبدو، على البعد، مشرقاً. * كاتبة سورية ومديرة مبادرة الإصلاح العربي