لا أدّعي أن هذا التقديم لسرديات عبدالله باخشوين يحمل مفتاحاً سحرياً، في رأسه مصباح يكشف المخبوء والمتواري من أسرارها، أو يعد دخولاً فاتحاً للمستعصي والمخاتل في دلالاتها وإيحاءاتها واحتمالاتها. أدخل - قارئاً - من الباب العام المتاح دخوله لسائر القراء، بذائقتي ورصيدي المعرفي المحدود، ولا أنكر: أنه على رغم محدوديته قد تمازج فيه الذاتي والموضوعي، التفسير والتأويل، المنهجي والانطباعي، بكل أو معظم الثنائيات، تتشابك وتدق حدودها بين الذاكرة - والوعي واللاوعي، بين الخاص والتناص، الفهم وسوء الفهم أيضاً. بالقدر نفسه أعترف، أو يلزمني الاعتراف بأنني لم أكلف نفسي مشقة البحث عن كل أو بعض ما كتب عن أعمال باخشوين السردية قبل مغامرتي هذه، التي لا يدعمها سوى اليقين أو ما يشبهه، بأن الإبداعات الإنسانية أمر مشاع يأخذ كل منه بقدر استعداده الفطري والمكتسب، كما يأخذ كل كائن من الطقس قدر ما يتمتع به من سلامة الحواس أو اعتلالها، وكما يعرف كل واحد من المبحرين عن البحر بقدر أدواته ودوافعه وعلاقته بذلك الامتداد المائي المهيب: معرفة يختلط فيها الواقع بالمتخيل، المعاينة بالسماع، الحقيقة بالوهم. وفي عالم الإبداعات بكل صورها، لا توجد قراءة نهائية، كما لا يوجد نموذج أعلى يقاس عليه للتأكد من دقة المقاربة. القراءة كالكتابة - معقدة ومركبة، وقد يقال أيضاً مخادعة، فالكاتب لا يكتب ما يريد، بل ما يستطيع التعبير عنه لغة ومهارة، والقارئ لا يقرأ قصد الكاتب، وإنما يقرأ ما حاول قصده، قراءة تتحكم فيها أدوات الكاتب نفسه، وحينما يتعلق الأمر بالفن السردي، القصصي منه يوجه خاص فإن الأسئلة تتقافز وتتناسل ويتصدرها سؤال وجودي كبير: ماذا يعني أن يكون أحدنا سارداً (قاصاً) والآخر شاعراً، وفناناً، مكانياً وزمانياً، والثالث والرابع غاوياً أو ملقياً - إلى ما لا حصر له... وما جدوى أن يتلقى المتلقون عطاءات هؤلاء وهؤلاء وإفرازاتهم...؟ وهل الفن عموماً ظاهرة صحية... أم عرض لاختلال ما. في تركيبة الفنان الوجدانية...؟ لقد ساد السحر عصوراً، والكهانة سادت جاهليات عديدة. وساد الشطح الصوفي تحت عباءات أرضية وسماوية (روحية)، حتى الآن بحثاً عن المطلق واليقين عبر الأوهام غالباً، ثم تربع الشعر محلقاً في معظم العصور بوهجه وغوايته منتهياً إلى الهبوط رويداً رويداً، حيث وجد القصة ترفع جناحيها للمنافسة. وخلال تلك التحولات كلها، يوجد النقد والتفسير والتأويل والتجديف واللغو، غواية تزدهر وتتمدد في العقول والأوراق حيناً من الدهر، ثم تخلي مكانها لغواية أخرى، يقتل بها الإنسان فراغه وحيرته، يجدد سعيه الدائم بحثاً عن المعنى والمدهش والمستحيل وورود... ماء يحسبه الظمآن ماءاً، من خلال العلم والفن والتأهيل عاجزاً عن الخروج من أقطار السموات والأرض، من الطريق الذي هبط عبره إلى الأرض، مطروداً من هناك «حيث لا يظمأ ولا يعرى» إلا ما شاء الله. ما كان لي أن أمضي مع شهوة الكلام، لكنها جاءت تتداعى أثناء وبعد قراءتي لحفلة باخشوين وأخواتها... إنها بعض الغوايات القادرة على انتزاع الكلام عنوة.. وتفجير النزعات قسراً... عرفت عبدالله باخشوين شخصاً قبل معرفتي به نصاً، في مجموعته «الحفلة»، الصادرة عن نادي جازان الأدبي عام 1413 - 1993، حين كنت قائماً بأعمال النادي. بدا لي حينها باخشوين شبيهاً بنص زاخر بالمفارقات، بينه وبين قارئيه - نصاً وشخصاً - مسافات هو الذي يحدد درجات أبعادها... يقترب إذا اقترب حتى تقول «قاب قوسين أو أدنى»، ويبتعد حتى تصعب رؤيته، كان عصياً على التصنيف، سائراً على حواف الأشياء، لا يشغل نفسه بالتفاصيل اليومية، رقيقاً وحاداً كالنصل المصقول، فرحه نادر كأنما في أعماقه جرح لا يندمل، أعتقد بأن كل ذلك طبع، لا تطبع ولا انسياق تبعي وراء فلسفة، كالوجودية والعبثية وغيرهما من إفرازات الضياع والبحث عن اليقين من غير طريقة على أن للقراءة تأثيرها ونقشها الموغل في ذاكرة القارئ وما وراءها من الملكات الداخلية. فباخشوين، كان انتقائياً في قراءته وتحصيله، كما لمسته مولعاً بالنصوص والكتابات والسِيَر المنطوية على اختراق المألوف في زمنها، وعلى سمات غرائبية وأفكار صادمة، يتعاظم ولعه بالأدب الروسي على وجه الخصوص، وحيوات كتابه، وتحولات تاريخه، مما كان له أثره في الآداب الأوروبية وغيرها في سياقات متعددة، وكان أيضاً حاضراً باستغراق في أجواء ما يقرؤه أكثر من حضوره في الحياة العامة في تلك المرحلة في أقل تقدير. لعل الكتابة بالنسبة له معادلة للحياة ذاتها فهي المجد البديل...، إن لم نقل: المجد كله. هكذا بدت لي صورة الكاتب عبدالله باخشوين قريبة الشبه بشخوصه ونماذجه كما لو كان يؤرخ لنفسه بكل إبهاماتها وتجلياتها ورؤيتها ورؤاها وحضورها وغيابها، وضعفها وقوتها. سمات نصية ومناصية، منها: اتساع المساحة الزمانية والمكانية للفضاء القصصي باعتماد البُعد الروائي، تعدد الأصوات والشخوص والأحداث في السياق القصصي الواحد، انتقائية المواقف، والحذف والفجوات الزمنية، والانتقال من الحاضر إلى الماضي عن طريق الاسترجاع، أو المراوحة، أو تيار اللاوعي أحياناً. ربط العناوين بفحوى نصوصها ربطاً مباشراً لا يتطلب التأويل ولا يعمد إلى الإنزياحات في تمظهراته اللفظية في أقل تقدير، الاستطراد والحركة العمودية في عملية السرد، تداخل الواقع والتخيل في بعض النصوص، والتطابق بين الروائي والكاتب بما يشبه السيرة الذاتية بدرجات متقاربة أو متباعدة بين نص وآخر... الحوار العامي (بلهجة حجازية غالباً)، مع ملاحظة غلبته في القسم الثاني، الفقر والهامشية والمحدودية، وانعدام الطموح، والاتكالية في التركيبة الشخصية للنماذج المحورية. الهجائية والسخرية والنقد من خلال تقديم الأوضاع بوصفها جزءاً من الواقع الحسي أو الذهني. ما أحسبه مشتركاً بين المرحلتين أو الصيغتين في الفقرات السابقة، لا يقلل من نسبة الفرادة والتمايز لكل منهما، على رغم أنه تقسيم اعتباري غير حدي، بمعنى أنه ليس فاصلاً بين نمطين متجاورين، بل نوعي يجعلنا الكاتب نبذل جهداً لإمازته وتبيينه بعدم اعتماده الترتيب الزمني لنصوص بحسب تواريخ ميلادها، والتخلي عن العناوين الأمامية الموسومة بها سردياً المطبوعات الأولى إلى عنوان موحد: «لا شأن لي بي»، يتصدر المجموعة الشاملة وهو عنوان نص حديث يحتل الرقم «19» في تبويبها، فهل فعل الكاتب ذلك الاعتبار؟ «موضوعاتي» أم لاعتبار انتقائي نفسي... أم بدافع مزاجي؟ إن هذا العنوان، العام - الخاص، ينطوي في ذاته على أسئلة، كونه يتصدر مجموعة من النصوص المتباعدة زمنياً ودلالياً، لا رواية تتمحور حول نموذج أو شخصية، أو عامل واحد، فهل هو إسقاط نفسي يتعالق مع شخصية الروائي - الراوي في كل أحوالها؟ أيمكن أن يستوحي منه القارئ انفصاماً يشطر الكاتب - الراوي - الشخصية ويجسد لا مبالاة مطلقة..؟ وهل تشتم منه رائحة وجودية فلسفية من تلقاء المرسل، راوياً كان أم مروياً عنه؟ من جهتي أحسب أن تركيبة الشخوص في نصوص «الحفلة» وما يشاكلها كالنغري والنذير، ولا شأن لي بي قريبة إلى هذه الروح الوجودية، الوجودية الغالبة في طبيعة الذات. * قاص وكاتب سعودي. - مقتطفات من مقدمة كتاب «لا شأن لي بي» الفائز بجائزة وزارة الثقافة للكتاب لهذا العام.