انتشرت في أوروبا، منذ عقود، ثقافة التأمين على كل شيء حتى وصل الأمر إلى التأمين على حياة الفرد إذا ما حدث له أي مكروه، بل والأغرب ما قام به بعض المشاهير، بالتأمين على أجزاء من أجسامهم والتي كانت سبباً في شهرتهم مثل الأنف أو الشارب أو الساقين، أو شعر الصدر. ولكن الأعجب أن نرى تلك الأفكار الغرائبية تمتد إلى فرسان العصور الوسطى في مدينة القدس وبلاد الشام، لدرجة سن قانون للتأمين على حياة الخيول، وهو بحق قانون غير مسبوق في الغرب المسيحي أو الشرق الإسلامي، أتى استجابة لتحدي نقص الخيول المخصصة للأغراض العسكرية لدى الصليبيين لضمان توفيرها وقت الحرب. غير أن الواضح أن التحدي كان أكبر من أن يعالجه سن قانون أو تشريع، وهذا ما يوضحه محمد فوزي رحيل في دراسته «قانون التأمين على خيل الحرب في مملكة بيت المقدس الصليبية»، الصادرة أخيراً في القاهرة عن «الجمعية المصرية للدراسات التاريخية». عانت القدس تحت الاحتلال الصليبي من نقص الخيول وكان لنقصها دور كبير في التراجع النوعي للقوات الصليبية أمام القوات الإسلامية طوال تلك الفترة المليئة بانقسامات حادة، بل متعارضة بين الشعوب على المستويات الإنسانية والثقافية والحضارية والدينية كافة، وكان يجب على الملوك والقادة الصليبيين إيجاد حل لهذا التحدي الذي يهدد كيانهم الدخيل على أرض العرب. وثمة محاولة مبكرة لتوفير وتعويض ما يخسره المقاتلون أثناء المعارك قام بها تانكرد Tancred (ت 1112م/ 505ه)، وذلك في عام 1109 (503ه) حين هاجم شيزر ووجد صدوداً من الفرسان وعدم رغبة منهم في تشديد الهجوم ولم يكن ذلك سوى بسبب خوفهم من فقد خيولهم، فما كان منه سوى تقديم تعهد بتعويض من يفقد فرسه بفرس آخر. وعلى رغم عدم تصريح المصادر بحالات مماثلة في القدسالمحتلة إلا أن الأمر كان متفشياً ونقص الخيول عانى منه الجميع ومن هنا وجب على ملوك بيت المقدس إيجاد حل جذري عبر قانون أصدره الملك عموري الأول عام 1168م (564ه) أثناء حصاره مدينة بلبيس المصرية. وبمقتضى هذا القانون لا يحق للسيد إرغام تابعه أثناء حصار مدينة أو قلعة ما لم يكن لديه من الدواب ما يكفي لهذه المهمة، ولا يجوز إرغام النبلاء على الترجل عن الخيل أثناء مهاجمة مدينة أو قلعة. ويبدو أن هذا القانون قد سن بسبب نقص الدواب وبخاصة الخيل. نجح محمد فوزي رحيل أن يعكس روح قوانين القدس، فشرح مواد القانون الممتدة من الفصل العاشر إلى الثالث عشر من كتاب الملك المكون من اثنين وخمسين فصلاً: الفصل العاشر حول «شروط التأمين»، والفصل الحادي عشر عن «نفوذ الموظف المختص بفحص الجياد»، والفصل الثاني عشر يحمل عنوان «حقوق الأتباع في الحيوانات التي تموت من دون مرض أو حادث، وعلى من ترجع الخسارة، كيف يحق لهم مطالبة المحكمة بتعويض عنها»، والفصل الثالث عشر والأخير حول موانع الحصول على التعويض. كانت شروط التأمين تتلخص في تحديد المشرع مبلغ التأمين على الجواد وهو 40 بيزنت Besant و30 بيزنت للبغال، ومن الضروري تقديم الجواد أو البغل إلى الموظف البيطري للاطمئنان إلى صحة الحيوان والتأكد من خلوه من الأمراض التي تمنع التأمين عليه. وبمجرد التأكد من سلامة الجواد يأمر كتبة السجلات بتسجيل هذا الحيوان في سجلات الملك بوصفه حيواناً يتمتع بالتأمين لضمان حصول صاحبه على التعويض بمجرد موت الحيوان أو عجزه عن الخدمة العسكرية حتى لا يقع فريسة سهلة للأعداء. وكان من الممكن أن يؤمن الفارس في الديوان الملكي على أكثر من جواد في الوقت نفسه إذا دعت الحاجة إلى ذلك. توضح الدراسة صفات الجواد الصحيح، وهي صفات يشرف عليها «كونستابل» مملكة بيت المقدس المحتلة The Constable ومعاونه المارشال The Marshal ذو الرتبة العسكرية العالية، الذي كان من مهماته الإشراف على الخيول وتوزيع الخيول المستولى عليها وتزويد المقاتلين بخيول بديلة لما فقدوه خلال المعارك، أو تلك التي نفقت بسبب الأمراض. ويتعلق الفصل الحادي عشر من القانون «بنفوذ الموظف المختص بفحص الجياد»، وأوضح رحيل في دراسته أن هذا الفصل القانوني رسخ نفوذ الموظف المسؤول عن عملية التأمين والذي يعطيه الحق في زيارة مالك الحيوان في أي وقت للتأكد من سلامته وعدم الإهمال في رعايته، كما تعدى دوره الحيوان إلى تجهيزاته العسكرية حتى يكون صالحاً للمشاركة في القتال وقت الحاجة. ويذكر أن الحصان كان يحتاج إلى تجهيزات خاصة حتى يكون جاهزاً للقتال، وهذه التجهيزات تنقسم إلى أربعة أقسام وهي: 1- اللجام والمقود وهي تتفاوت في أحجامها وصفاتها باختلاف الحيوان بحيث توفي بالغرض منها من دون أذية الحيوان. 2- اللواوين والقلائد وتستخدم اللواوين في تسيير الخيول وقت السير، أما القلائد فهي ما يعمل في رقبة الحصان مثل الخرز أو القرون على سبيل الزينة. 3- السروج والعبي وهي تختلف باختلاف الحصان بحسب سنه كما تختلف ألوانها باختلاف لونه فللأدهم عباءة بيضاء والأشقر له العسلي 4- الكنابيش والبراقع والمدبات، وهي أغطية للخيول تمنع عن الحيوان الغبار ولدغ الذباب. وبنود هذا الفصل تنم عن إهمال بعض الفرسان رعاية خيولهم، ومن ثم وجب الحد منها من طريق هذا الفصل الرادع من قانون الملك. أما الفصل الثاني عشر من القانون فيوضح «حقوق الأتباع في الحيوانات التي تموت بمرض أو حادث، وعلى من ترجع الخسارة، وكيف يحق لهم مطالبة المحكمة بتعويض عنها»، ومن هذا الفصل يتضح لنا عدد من أسباب عدم صلاحية الحيوان للخدمة العسكرية بسبب الإصابة، إما في العمليات العسكرية أو الخدمة الحكومية أو إصابته بمرض خارج عن مسؤولية الفارس صاحب الدابة، كما يوضح بعض الإصابات الأكثر انتشاراً بين الخيول مثل ألم السيقان أو كسر ضلع الدابة، إذ ينص القانون على أن من حق صاحب الحيوان المؤمن عليه الحصول على تعويض عن حيوانه في حالة موته أو عجزه عن العمل، وهذا التعويض، إما بالحصول على مبلغ لشراء حيوان مناظر أو الحصول على حيوان جديد من جهة التأمين. وإذا ما تعرض الحيوان للكسر في ساقه أو فخذه أثناء المشاركة في عمل حكومي أو العمليات العسكرية، يحصل صاحبه على مبلغ التأمين أو حيوان جديد. وإذا أصيبت الدابة المؤمن عليها بأي شيء يمنعها من العمل، فمن حق صاحبها الحصول على التعويض مع الاحتفاظ بدابته. وإذا أصيبت الدابة بمرض من حق صاحبها إعادتها إلى المحكمة التي تدفع ثمنها أو تسلمه غيرها. وإذا تعرضت سيقان الدابة للألم من حق صاحب الدابة رفع دعوى أمام القضاء للحصول على التعويض. وأخيراً إذا كسر الضلع العلوي للدابة فمن حق صاحبها رفع دعوى أمام المحكمة للحصول على التعويض. وختام فصول القانون هو الفصل الثالث عشر حول (موانع الحصول على التعويض) وفي هذا الفصل يعالج القانون الحالات التي تحول دون حصول صاحب الدابة المؤمن عليها على التعويض من المحكمة. ومن بينها إذا قام صاحب الدابة بإعارتها وتعرضت لمرض أدى إلى وفاتها أو أصيبت بالعجز ففي هذه الحالة لا يحق لصاحب الدابة طلب التعويض وإذا رفع الدعوى أمام المحكمة فإنها دعوى مرفوضة. وفي حالة الخروج للتنزه واصطحاب الأسلحة من دون إذن القائد وتعرض الدابة للإصابة فليس من حق صاحبها الحصول على التعويض من الملك. وإذا ما أهمل الرقيب في تعليق شريط السرج وأدى ذلك إلى خنق الدابة وموتها فلا يحق لصاحبها طلب التعويض من الملك أو اللجوء للقضاء. وإذا قام الرقيب بشد شريط القدم حول ساق الجواد في شكل شديد وأدى ذلك إلى كسر رجل الدابة، فالخسائر تقع على صاحبها وليس على السيد. وإذا ما سقطت الدابة المربوطة في الإسطبل وتبين لصاحبها أنها أصيبت بمرض سقوط الشعر، ما أدى إلى عجزها، فالخسارة على صاحب الدابة، ويجب على الموظف المختص بالتأمين على الجياد الكشف عن حالة الحيوان حال موته أو عجزه لتحديد على من تقع المسؤولية، وبالتالي لا يظلم السيد ولا تابعه صاحب الحيوان العاجز أو النافق. ومن هذا الفصل يتضح لنا عدد من أسباب خروج الحيوان من الخدمة العسكرية مثل: الأمراض ومنها مرض سقوط الشعر الذي يصيب الخيل إذا ما تعرضت للإهمال في الإسطبلات، أو إعارة الدابة المؤمن عليها للغير الذي لا يلتزم برعاية الحيوان مما قد يتسبب في عجزه، كما يؤكد الفصل نفسه ضرورة مراقبة الفارس لرقبائه والمسؤولين عن رعاية خيوله، لأن الإهمال يؤدي إلى فقدان صاحب الدابة الحق في التعويض عنها. يشير محمد فوزي أيضاً إلى رحيل إلى انتشار كسور السيقان والضلوع في شكل واسع بين الحيوانات بسبب شد الرقيب شريط القدم حول الساق ما يؤدى إلى كسرها. وأكدت كتب البيطرة العربية خطورة كسور الكتف، ذلك أنه لا يرجى شفاؤه، وكذلك كسر قصبة الرجل، ومن ثم يخرج الحصان من الخدمة العسكرية إلى الأبد. أو يهمل الرقيب شد شريط السرج، ما يؤدي إلى خنق الدابة ونفوقها، ومن هنا يلزم القانون، تلميحاً لا تصريحاً، بضرورة متابعة الفارس لخيوله المؤمن عليها وطريقة رعاية الرقباء لها والتشديد عليهم في الالتزام بقواعد هذه الرعاية وعقابهم في حالة الإهمال. ويختتم رحيل دراسته بعرض مدى تأثر هذا القانون بالنظم الإسلامية والعربية بحكم اعتزاز الفرسان العرب بخيولهم وتقديرهم لها، بل لأي فرس يرونه شجاعاً، فاعتبروا ترويض الخيول وسياستها والحفاظ عليها من الأعمال التي لا ينجح فيها إلا الفرسان البارعون دون سواهم، وكان لقدرتهم على سياسة الخيل دور في تدعيم وتأكيد مكانتهم كفرسان، لذلك قال مبدع السيرة الهلالية: «ولا كل من ركب الكحيلة سايسها».