كشفت دراسة جديدة في ألمانيا أن البلاد تتكلف سنوياً حوالى 22 بليون دولار فاتورة مرض الاكتئاب، الذي يشمل حالات مرضية مثل: الضغط والإجهاد... والخوف من خسارة الوظيفة، فضلاً عن الاكتئاب كمرض ذهان. ووصلت الدراسة إلى نتيجة مفادها أن الناس الذين يذهبون إلى عملهم على رغم أنهم مصابون بالاكتئاب، تكون إنتاجيتهم في حدّها الأدنى، علماً أن تناول مضادات الاكتئاب يؤدي إلى حالات انتحار، وغالباً ما تتلاعب شركات الأدوية بمصير مرضى الاكتئاب والمرضى العقليين عموماً. في الوقت ذاته، خطت ألمانيا خطوات متقدمة في حقل العلاج بالفن وبالموسيقى تحديداً. وقدمت نماذج متطورة لدمج أصحاب الحالات المرضية الخاصة بالمجتمع، سواء المتخلفين عقلياً أم المصابين بالجنون، أم من يمتلكون عاهة جسدية. وزارت «الحياة» أخيراً أحد المستشفيات المختصة في منطقة سكسونيا لإلقاء الضوء على هذه التجربة الفريدة، والتقت هناك المعالج الموسيقي غولب. في المستشفى الذي يحتوي على ثلاث غرف رئيسة: غرفة لعزف الموسيقى الحرة، وثانية للأعمال الفنية وأخرى للرقص. وأوضح غولب آلية عمل فريق الأطباء النفسيين. فعندما تحوّل إليهم أي حالة مرضية، يجرون مجموعة من الاختبارات النفسية المعمّقة من خلال طرح أكثر من مئة سؤال على المريض أو الزائر، وتحليل المغزى الكامن وراء الإجابات، ثم تحديد نوع النشاط الفني الذي عليه أن يمارسه. فقد تناسب حال المريض أن يعزف الموسيقى، أو أن ينضم إلى فرقة راقصة أو ينخرط في عمل جماعي لإبداع لوحة. فالرسم والنحت والتصاميم من القماش والكرتون والخشب... تعدّ وسيلة للعلاج ومعرفة أعماق نفس الإنسان وأوهام عقله وبواطنه التي يخفيها. يقول غولب: «عند تصميم غرفة الموسيقى، ووفقاً لدراستي الموسيقية والطبية أيضاً، اعتمدت على مجموعة من الآلات الموسيقية الإيقاعية التي يمكن أن تعزف من دون نوتة، ولا تحتاج إلى تعلم مختص». ويشرح: «عندما يأتي المريض، أو من يعاني إحباطاً أو إجهاداً فكرياً ولم يصل بعد إلى حدّ المرض، وبعد تحويله إلى قطاع الموسيقى، أطلب منه عندما يدخل الغرفة الموسيقية أن يجرّب من الآلات الموسيقية ما يرغب. قد يجرّب الطبل أو يستمتع بتحريك الخشخاشة التي تصدر صوتاً كأصوات البحر. ويكون لاختيار الآلة الموسيقية وتشبيه الصوت الصادر عنها بشيء معين دلالات معينة. فمثلاً شخص شارك في الحروب لا يريحه سماع الطبل أبداً لأن ذلك يذكّره بضرب المدافع أو القصف، فيما يستمتع شخص آخر يعاني ضعفاً في الشخصية أو عقدة الخجل بضرب الطبل بقوة. فأطرح أنا أسئلتي على المريض، وأسجّل ملاحظاتي قبل رفعها إلى الطبيب المختص». ويلفت غولب إلى أن سماع نوع معيّن من الموسيقى يساعد على الشفاء. ويكمن دوره هنا في مساعدة المريض على معرفة نوع الموسيقى التي يحتاجها... وتشخيص حاله المرضية. «فقد جاءني ذات يوم مريض جرّب مجموعة من الآلات الموسيقية. وعندما سألته عما عبّر له كل صوت، أجاب: هذا الصوت الناعم الخارج من القيثارة هو صوت أمي، وصوت النشاز الصادر عن الخشخاشة هو صوت أخي الصغير، أما أبي فلا أجد له صوتاً في هذه المجموعة. وقد ساعدنا هذا التوصيف في معرفة سبب معاناته، وهي أسرته». وتوضح المسؤولة عن قسم الأعمال الفنية طبيعة علاقتها بالوافدين، عبر شرحها مجموعة الأعمال الفنية التي أنتجوها خلال فترة إقامتهم. فطلبت منهم أن يصنعوا علبة كرتون وأن يضعوا فيها ما يفكرون به، وحصلت على نتائج مختلفة تحتاج إلى تحليل الطبيب. إحداهم وضعت مجسماً لقلب محطّم، وأخرى صنعت علبة ووضعت فيها كلمة مشاكل، وأخرى وضعت طفلاً صغيراً بلا رأس. وهكذا، فإن كل ما صدر عن هؤلاء من أعمال فنية له دلالة ومعنى، وله أسلوب للعلاج. فبعد معالجة السيدات الثلاث، أنتجن أنواعاً أخرى من الأعمال الفنية تكشف أنهن تحرّرن من عقدهن أو اضطراباتهن النفسية. «في تحليلنا للشخص نوع مشكلته، نفكر في الألوان التي استخدمها وفي أحجام المجسمات التي ابتكرها، ونساعده في تطوير أدواته الابتكارية». ويشرح جورج، مشرف الرقص، علاقة الرقص والحركة بالعقل ومفرزاته، لافتاً إلى أن الرقص يفرغ الكثير من حالات التعب والإجهاد، وهو ليس حكراً على الشباب والأصغر سناً. وثمة أشخاص يجهلون سبب معاناتهم أو إحباطهم، فيعمل المختصون على كشف جذور المشكلة ومعالجتها بالطرق الفنية. وتتوافر في ألمانيا محال تجارية تعرض منتجات وابتكارات مرضى الفصام أو المعوّقين ذهنياً، ممن يلجأون إلى ورش فنية أو تقنية خاصة. وتباع المنتجات بأسعار زهيدة، لأن الهدف منها جعل المريض العقلي... شخصاً منتجاً، وبالتالي جعله يتجاوز محنته، في موازاة الدواء وبرامج الدعم النفسي.