«من النادر أن يُبحر باحث بمفرده طوال 25 سنة في بطون المخطوطات الموسيقية العربية في العصر العباسي الأول ( 750- 847)، وأن يقتفي آثار اسحق الموصلي والكندي والفارابي وأبو الفرج الأصفهاني ويثري المكتبة العربية والعالمية بأسفار موسيقية تزخر بالقيم الجمالية». بهذه العبارات المقتضبة، تختصر دائرة المعارف الموسيقية الكندية مسيرة عازف القانون الكندي من أصل مصري جورج ديميتري ساوا الذي ولد في الإسكندرية عام 1947، وتخرج من الكونسرفتوار الوطني المصري بشهادة بكالوريوس في الموشحات والبيانو والقانون. هاجر ساوا إلى كندا عام 1970 لاستكمال علومه الموسيقية والاطلاع على المراجع التاريخية والمخطوطات الموسيقية العربية القديمة. وبعد تسع سنوات نال شهادة الماجستير في العلوم الموسيقية وشهادة الدكتوراه في «العزف الموسيقي في مجالس الطرب في العصر العباسي الأول» من قسم الدراسات الشرقية التابع لجامعة تورونتو. والدافع إلى التعمق في تلك الدراسات يعود كما يقول في حديث مع «الحياة « إلى: «ملء الفراغ القائم في الموسيقى العربية القديمة وتدوين وتحليل ما تشتمل عليه من نظريات ونوتات وإيقاعات ومقامات وغيرها من التشكيلات الموسيقة الأخرى». يتمتع ساوا بأفق واسع من الثقافة الموسيقية. فهو لم يأل جهداً في دراسة «العلوم الموصلة « من أدب ودين وفنون وفلسفة وعلوم ولغات أجنبية كالفارسية والإسبانية والإنكليزية، بغية اكتشاف الجواهر الكامنة في بطون المخطوطات الموسيقية العربية القديمة. وتمخض هذا الجهد الكبير بعد ربع قرن من البحث والتنقيب عن ولادة كتاب «مجالس الطرب» الذي يتضمن تدويناً وتحليلاً لمجمل النظريات والإيقاعات الموسيقية العربية والإسلامية الواردة في مخطوطات اسحق الموصلي والكندي والفارابي بين القرنين الثامن والعاشر الميلادي. هذا السفر الذي يعتبر بحد ذاته «دائرة معارف موسيقية» حظي بتقدير الحكومة الكندية ووفرت له منحة مالية لمدة سبع سنوات متواصلة ليكون مرجعاً تاريخياً لدى طلاب الجامعات والباحثين في العلوم الموسيقية. وينكب ساوا حالياً على وضع اللمسات الأخيرة على كتابه الثاني «قاموس عربي عربي» الذي يتألف من 24 جزءاً ويضم نحو عشرة آلاف صفحة تتضمن شروحاً وافية من كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني بما فيها المقامات والإيقاعات والآلات الموسيقية العربية والمفردات الفنية المستعملة في تحليل القيم الجمالية للصوت والعزف والتلحين. كما دوّن ساوا قسماً من أعماله على أسطوانتين تتضمنان 17 مقطوعة هي تشكيلة من ألحانه العربية والعثمانية والروحانية. يعتبر ساوا القانون آلته الموسيقية المفضلة، فهي صعبة المراس والإتقان، وأغنى الآلات أنغاماً وأطربها صوتاً. تتمتع بمساحة كبيرة تتسع لكل المقامات الموسيقية العربية. وهي بمثابة «القانون» أو «الدستور» لسائر الآلات الموسيقية، وملكة الموسيقى والعزف والآلات. تتميز بتنوع عُربها الموسيقية وزخرفتها العربية النادرة ووفرة أوتارها (78 وتراً) المصنوعة من جلد السمك ومرونتها الفائقة التي تتناسب مع الإيقاعات الشرقية والعربية والصوفية والصعيدية والفولكلورية والكلاسيكية. ولا يخفي ساوا ولعه الشديد بالقانون الذي لا يزال يرافقه في مسيرته الموسيقية ويحتفظ بخمسة من أجود أنواعه النادرة وأثمنها بينها «القانون الحلبي» الذي يعود تاريخه إلى مطلع القرن العشرين. إلى جانب كونه أستاذاً في جامعتي تورونتو ويورك لتاريخ الموسيقى الحديثة والعصور الوسطى والموسيقى الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية في الشرق الأوسط، يحظى ساوا بمكانة أكاديمية رفيعة كنيله لقب الزمالة في الموسيقى الشعبية وانتخابه عضواً في اللجنة العليا للرقص والموسيقى وتكريمه بجائزة الإنجاز الفني من وزارة الثقافة المصرية وجائزة التميز والإبداع من الاتحاد الكندي -العربي. كما يحظى بشهرة عالمية من خلال ما يقدمه من أبحاث ومنشورات ونظريات ومحاضرات وندوات في العديد من العواصم والجامعات الأميركية والأوروبية والعربية كان آخرها في أبوظبي والشارقة. أما نشاطه الفني فيتجلى من خلال تأسيسه فرقة موسيقى عربية أحيت العديد من الحفلات داخل كندا وخارجها فضلاً عن توليه منصب الرئيس والمدير الموسيقي للإنتاج في أكاديمية الرقص الشرقي (أرابيسك) ومشاركته في مهرجانات تورونتو لا سيما مهرجان «لوميناتو» الصيفي الذي سيخصص له في 28 آب (أغسطس) المقبل، ساعة عزف منفرد على القانون.