لم يكن يدور في خلد قادة حزب الله أن يأتي يوم ويروا أنهم وصلوا إلى أدنى درجات التأييد في العالم العربي، إن لم نقل العداء. هذا التحول الدراماتيكي لم يكن سببه فقط غزوة السابع من أيار لبيروت، مع تداعياتها السلبية، بل الدعم غير المشروط للنظام السوري في حربه ضد المعارضة المطالبة بالتغيير والحرية. والمستغرب أن حزب الله لا يزال مصراً على السير في هذا الطريق مع أن كل المؤشرات تدل على أنه طريق مسدود، ورغم تسليم جميع المراقبين بأن حزب الله بقدر ما هو حزب عقائدي فإنه يتمتع بالبراغماتية، والحكمة السياسية، والتخطيط الاستراتيجي. إذاً لماذا يتشبث حزب الله بهذا المسار مع كل ما لديه من مؤسسات، ومخططين، ونظم معلومات وغيرها؟ لا يمكن الجزم بسبب واحد ولكن من الممكن التكهن بأسباب عدة قد تشرح تمسك حزب الله بهذه السياسة الخاطئة والقاتلة. أولاً، حزب الله بتكوينه، ورؤيته، وأهدافه ليس حزباً عادياً بمعنى أنه يُجيِّش قاعدته الشعبية من اجل التنافس على السلطة، وتحقيق مكاسب سياسية، بل هو حزب عقائدي لديه أهداف نهائية يعتقد أنها ستتحقق، وأنه بتحققها سيسود السلام والعدل. وقد عبر الأمين العام للحزب مراراً عن زهده بالسياسة مؤكداً أن الحزب تركها، ومستعد لتركها، إذا ما شعر بأن الساسة اللبنانيين يتصرفون بما يخدم البلاد، وبما لا يشكل خطراً على المقاومة. ثانياً، حزب الله في معركته مع إسرائيل يتحتم عليه نسج علاقة متميزة مع سورية من اجل حماية ظهر المقاومة. وقد مدح الأمين العام لحزب الله قادة النظام السوري، في عز اشتداد القمع الداخلي في سورية، ووصفهم بأنهم حموا المقاومة، ونعى بعضهم بأجمل العبارات. طهران في المعادلة ثالثاً، علاقة حزب الله بسورية تحكمها توجهات اكبر من قيادة الحزب، ومصدرها طهران. ورغم ادعاء الأمين العام للحزب أن طهران لا تفرض رؤيتها، وأنها تعطيه كل ما تعطيه من اجل دعم المقاومة فقط لا يمكن التسليم بسهولة بما يقول لأن السيد حسن نصرالله أكد في أكثر من مناسبة إيمانه بولاية الفقيه، وأنه مجرد جندي في هذه الولاية. وعلى هذا يمكن فهم علاقة حزب الله بسورية على أنها علاقة تؤطرها طهران التي استثمرت في النظام السوري استثمارات هائلة سياسية ومادية وعسكرية وعقائدية. فالنظام في طهران سلم لدمشق بالملف اللبناني في أيام الرئيس حافظ الأسد، ووفر كل الدعم المالي والسلاح، وزاد دعمه في كل تلك المجالات في عهد الابن بشار الأسد، لأن الابن فاق أباه في مجالات التعاون مع طهران وبالذات في مجالات الانفتاح الديني مما أثار في مناسبات عدة احتجاجات رجال الدين السنّة في سورية، وبعض المشايخ في الطائفة العلوية الذين اشتكوا من موجة التشيع الإيراني في صفوف أبناء طائفتهم. رابعاً، التمهيد للدولة لاستكمال الاستراتيجية الإيرانية يتطلب الدفاع المستميت عن النظام في سورية بعد تمكن إيران من السيطرة على العراق، وبالتالي وصولها براً إلى قلب دمشق، ومنها إلى لبنان لتصبح إيران بذلك دولة مواجهة مع إسرائيل. وبهذا تتمكن من اللعب بالأمن الإسرائيلي بما يخدم مصالحها المتعددة ومن أهمها الملف النووي. هنا من المناسب التذكير بأن الأمين العام لحزب الله لم يخف أبداً استعداده لضرب إسرائيل إذا ما حاولت إسرائيل ضرب طهران، ولم تخف إيران أن طائرة «أيوب» الاستطلاعية نقلت الصور والمكالمات التي التقطتها مباشرة إلى مركز القيادة في طهران. خامساً، الإيمان المطلق ولربما الاغترار بالذات بعد تمكن حزب الله من الصمود في وجه إسرائيل، وليس الانتصار كما تروج الدعاية الإعلامية، لأن ثمة فرقاً كبيراً بين الانتصار وبين الصمود، ولا داعي للاسترسال بذلك، ولكن المهم أن قادة حزب الله يعتقدون أن الله يسدد خطاهم، وأنه معهم، وبالتالي فإن النصر الذي حققوه، كان نصراً إلهياً. إنه نصر يشبه معركة بدر التي كان فيها المسلمون قلة وانتصروا على الكثرة من المشركين. فحزب الله المتواضع في عتاده ورجاله انتصر على اكبر دولة عسكرية، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بتدخل الإرادة الإلهية. هذا الاعتقاد يولد اغتراراً بأن الحزب كونه يدافع عن المستضعفين، وكونه ملتزماً بالإيمان، فإن الله سيكون بجانبه في كل معركة يقررها قادته المؤمنون. هذه الأسباب قد تفسر نوعاً ما سياسة الحزب تجاه الأزمة السورية ولكنها تؤكد بقدر ما تفسر هشاشة هذه الاستراتيجية ومدى تعارضها مع الواقع السياسي الداخلي والدولي، وحتى مع الفهم الديني للطائفة الشيعية. فحزب الله في لبنان رغم فهمه العميق للساحة اللبنانية برهن أنه في ضوء التصلب العقائدي نسي أبسط قواعد التركيبة السياسية والطائفية اللبنانية. فحزب الله بدخوله المعترك السوري، ونظراً إلى العامل الطائفي في المعادلة السورية، استعدى الطائفة السنية إن لم يكن كلها، فبأكثريتها الساحقة، وأصبح في وطن لا يجد فيه عوناً من أكبر الطوائف اللبنانية. ولم يصل الأمر عند استعداء الطائفة اللبنانية بل بتحالفه مع الجنرال ميشال عون، على قاعدة ليأخذ ما يشاء الجنرال طالما يدعمنا، أثار حفيظة قادة كبار في الطائفة المسيحية خوفاً على وجودهم السياسي، وخوفاً على لبنان. حزب الله في المعادلة اللبنانية لم يعد حزباً محصناً، ولن يقف معه الجميع، وهو الآن بدخوله المعترك السوري أصبح يخوض حرباً مع أبناء وطنه، ومع اشتداد الحرب سيشتد العداء إن لم يغير موقفه قبل فوات الأوان. هذا الواقع دفع بقادة دينيين من الطائفة الشيعية إلى استشعار الخطر على طائفتهم، وسمعتها من أمثال الأمين العام السابق لحزب الله صبحي الطفيلي، وهاني فحص، والسيد علي الأمين وغيرهم. على الصعيد الدولي فإن حزب الله لم يعد الحزب الذي يحمي لبنان بل اصبح عبئاً على لبنان وعلى سمعته واقتصاده وعلى اللبنانيين في الخارج. وقد أثبت الاتهام الأخير لحزب الله بتفجير حافلة الركاب في بلغاريا أن ما يحصن حزب الله هو خوف الدول المؤثرة على الدولة اللبنانية وليس على الحزب، بمعنى أن الحزب بنظر تلك الدول اصبح عامل تفجير داخلي، وأن أي ضغوط عليه، أو على لبنان ستفجر الوضع اللبناني. وهذا أخطر ما يشكله حزب على مستقبل وطن. إن حزب الله باستمراره في تحدي الأسرة الدولية، ورفضه الانصياع لقرار المحكمة الدولية، وإيمانه بالنصر (الإلهي) في سورية، وإصراره على طهوريته الأخلاقية والسياسية في لبنان، مندفع إلى مزيد من التأزم، وسيدفع معه لبنان إلى واقع مرير، ما لم يُعدْ النظر في قراره الخاطئ. * كاتب لبناني مقيم في لندن