الأمير شكيب أرسلان، تفرّد عن الرحالة العرب إلى أوروبا بأن رحلاته كانت لأغراض سياسية، إذ سافر عام 1917 في مهمة رسمية إلى برلين، وزار بعض مدن ألمانيا، ووصف هذه الرحلة في رسالة نشرت في حلقات مسلسلة على صفحات جريدة «الجهاد» المصرية. ثم أوفده أنور باشا، ناظر حربية الدولة العثمانية، إلى برلين مرة ثانية عام 1918 ليحصل من الألمان على اعتراف باستقلال أذربيجان، وعندما خسرت الدولة العثمانية الحرب بقي أرسلان في برلين، ثم انتقل إلى سويسرا من أواخر 1918 إلى أوائل 1920، بعد ذلك عاد إلى ألمانيا، ثم سافر في 1921 إلى موسكو في مهمة سياسية أيضاً، وما بين 15 آب (أغسطس) و21 أيلول (سبتمبر) 1921 حضر المؤتمر السوري - الفلسطيني الذي عقد في جنيف، ثم سافر إلى لندن في تموز (يوليو) 1922 في شأن الانتداب على سورية ولبنان وفلسطين، بعد ذلك حضر مؤتمر جنوا في آب 1922، وزار روما، وأقام بسويسرا ما بين 1925 و1946، حيث كانت لوزان ثم جنيف مركزي نشاطه في الدفاع عن البلاد العربية ضد الاحتلال الأوروبي. وفي عام 1927 زار كلاً من الولاياتالمتحدةوموسكو، وإن لم يخص أرسلان هذه الرحلات كلها بمؤلفات مستقلة، فإنه وصف مشاهداته وانطباعاته في كتابيه «شوقي أو صداقة أربعين سنة» المطبوع لأول مرة عام 1936 في مطبعة عيسى البابي بمصر، و «السيد رشيد رضا أو أخاء أربعين سنة» المطبوع بمطبعة ابن زيدون بدمشق عام 1937. حج أرسلان إلى الحجاز عام 1929، ونشر عدداً من رسائله عن هذه الرحلة في جريدة «الشورى» ثم ضمنها في كتاب عنونه «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس المطاف» المطبوع عام 1931 في مطبعة دار المنار بمصر مع مقدمة للشيخ محمد رشيد رضا، كما زار الحجاز واليمن عام 1934 كعضو في وفد السلام بين المملكة العربية السعودية واليمن، كما حضر مؤتمراً إسلامياً في مكة عام 1934، وفي صيف 1930 زار جنوبفرنسا، ووضع كتابه «تاريخ غزوات الغرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط» الذي طبع لأول مرة عام 1933 في مطبعة عيسى البابي بمصر، وانطلق إلى أسبانيا، التي كتب على أثرها مؤلفه الضخم «الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية»، وضمنه فصولاً في التاريخ والجغرافيا، وطبع الجزءين الأول والثاني منه عام 1936 في المطبعة الرحمانية في مصر، أما الجزء الثالث فطبع عام 1939. وبين عامي 1926 و1935 زار بلدان أوروبا الشرقية التي يقطنها المسلمون، ومنها البوسنة والهرسك، ووصفها في كتاب لم ينشر بعنوان «الحلة السنية في الرحلة البوسنية»، وأشار إليه في كتابه «تاريخ غزوات العرب»، ص 208. ذهب أرسلان إلى أن مبادئ الثورة الفرنسية واحدة في الحضارتين الغربية والإسلامية، وأكد أن الإسلام سنَّ المساواة والإخاء والحرية، مستشهداً بالحديث النبوي الشريف «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى»، ونستنتج من ذلك أن العلاقة بين المواطنين في رأيه أضحت قائمة على المساواة السياسية والاجتماعية، وحل محل النظرة الثيوقراطية التقليدية إيمان بالديموقراطية الحديثة التي تعتبر الناس جميعهم إخوة، وذلك لأجل إظهار الاتفاق التام بين الإسلام والحضارة الغربية، وأنه لا تناقض بينه وبين الفكر الأوروبي الحديث، وتألم لضعف المسلمين وما لحق بهم من ذل على أيدي الغرب على أثر الاحتلال والانتداب، فكره الغربيين ونقم عليهم، وشعر أن التمسك بالإسلام ضروري للحفاظ على الكرامة والهوية معاً، ولكنه أدرك أن المبادئ السياسية التي قامت عليها المدنية الغربية الحديثة من العوامل العامة في قوة الغرب وتفوقه، ومن المستحيل أن ينكر المرء ما في الغرب من حرية ومساواة وإخاء ليست في البلاد الإسلامية، لذلك أراد أن يبين أن هذه المبادئ لا تختلف عما في الإسلام، فالمدنية الغربية ليست متفوقة على الحضارة الإسلامية في شيء، ويكفي المسلمين أن يتمسكوا بهويتهم وتعاليم دينهم ليضحوا كالغربيين أحراراً مستقلين. ظلم المستعمر وانتقد أرسلان ظلم المستعمر الغربي ودسائسه السياسية، واعتبره مسؤولاً عن تخلف الشرق الاقتصادي، إذ استغلت الشركات الأجنبية خيرات البلاد العربية، وسعى لإثبات أن الغرب ليس عزيزاً وغنياً وقوياً إلا بسبب الشرق الذي يستغله، ولعله وجد في ذلك ما يحضّ همم الشرقيين كي لا ييأسوا من التحرر يوماً، وتصارع في فكره السياسي المفهوم القومي الديني والمفهوم القومي العلمائي إزاء الغزو الغربي، وتمسك بالإسلام، لأنه أهم العناصر التي ميزت العربي المسلم عن الأوروبي المسيحي، فشعر بأن الدين أقوى الروابط بين الناس، وطبعت النظرة الدينية فكره السياسي، فانتقد تعصب الأوروبيين الديني، وافتراءهم على الإسلام وحضارته، ووجه اهتمامه الأول لجهود المبشرين التي بذلوها لتنصير المسلمين، وعليه أحس بأن الاستعمار الحديث مشروعات صليبية، ونتيجة لذلك آمن بأن الإسلام يستطيع أن يجمع المسلمين كلهم فيقفوا صفاً واحداً في وجه الغرب، فأيد الجامعة الإسلامية، وهاجم الحركات القومية العلمانية، فنقم على الطورانية التركية، والحركات الوطنية المصرية، والقومية العربية على السواء، واعتبرها من وحي الدول المستعمرة أيضاً لأنها رمت إلى تشظية عصا الجامعة الإسلامية، وكان إيمانه بالجامعة الإسلامية السبب الذي جعله يدافع عن الدولة العثمانية حتى بعد زوالها، ونتج عن الصراع بين الرابطة الدينية هذه والرابطة القومية العلمانية أن ذهب إلى أن الدين لا علاقة له بالقومية، وتدريجاً حل إيمانه بالجامعة العربية محل الإيمان بالجامعة الإسلامية، فدعا إلى اتحاد البلاد العربية وفيها لبنان بلاد العرب ورمز نهضتها، وأيد المساواة بين أبناء الأمة العربية. وإذ أحس أرسلان بأن التمسك بالإسلام هو السبيل الوحيد إلى المحافظة على الهوية، أراد أن يبين أن الدول الغربية نفسها لم تتنازل عن دينها، بل إنها هي أيضاً تمزج الدين بالدولة، على رغم ما تدعي، وكأنه أراد أن يثبت للمسلمين أن الدول الأوروبية تتظاهر بفصل الدين عن الدولة لتجر الدول الإسلامية إلى ذلك، فتفقد هذه دينها وهويتها، ولم يجد أرسلان في الإسلام أسس الديموقراطية والحكم النيابي فحسب، بل كل ما اعتبره المسلمون صالحاً في النظم السياسية الغربية، كمبادئ الاشتراكية، ولعله أراد أن يثبت أن الإسلام قد سبق الغرب إلى أصول الحكم الديموقراطي فلا فضل للغرب على الشرق، وليس عليه أن يدعي تعريفه بنظم جديدة عملت على تحسين الحكم في البلاد الإسلامية،. وفي محاربة القانون الغربي تسلح أرسلان بأساليب الغرب العلمية، فهو لم يفضل الشريعة على القانون لأنها منزلة، بل لأن كل قانون مستمد من روح الشعب الذي استن له، ومن أذواقه وعاداته وتقاليده وأخلاقه، فبين أن القوانين الأوروبية بعيدة كل البعد عن عادات المسلمين، وأخلاقهم ومشاربهم، لذا لا يمكن أن تفيدهم، فلا يصلح لهم غير الشريعة، فيتضح لنا أنه تأثر بعقلانية الغرب تأثراً كافياً ليحس أن الحجج العلمية أكثر إقناعاً من الدينية في الدفاع عن الدين نفسه، وقد رأى فيها فوق ذلك وسيلة فعالة في دحض حجج الغربيين وأنصارهم إذ حاربهم بسلاحهم، وفي دفاعه عن الشريعة الإسلامية بين أن الإسلام ليس فريداً في كونه شرع دين ودنيا، فالبوذية واليهودية وغيرهما نصت على أمور الدنيا والآخرة، أما المسيحية فقبلت الشريعة الموسوية في أمور الدنيا، ولم يرد المسيح أن يأتي بشرع جديد، وقد قال بنفسه إن العهد الجديد إكمال العهد القديم، لا نقض له، وكأننا به يريد إثبات أن ما تذرع به أنصار القانون الغربي ليغفلوا الشريعة ليس إلا من باب التمويه والتحامل، فإن كانت قوانين المسيحية مستوحاة من اليهودية ولا تزال تفي بحاجات العصر، فلمَ لا تصلح الشريعة الإسلامية للغرض نفسه، وواضح أن رغبته في الدفاع عن الشريعة جعلته يغض النظر عن حقيقة القانون الغربي وأنه ليس مستمداً من اليهودية على الإطلاق، وعندما أراد أن يثبت تفوق الشريعة الإسلامية على القوانين الأخرى، استند إلى نظريته القائلة إن القوانين مستوحاة من الأديان، ثم طورها الناس، ولكن الاجتهادات في الإسلام أكثر منها في أي دين آخر، ولهذا يرى أن الشريعة أصلح من غيرها. ثم أوضح أرسلان أن تخلف المسلمين الحضاري والأخلاقي ليس ناجماً عن تقصيرهم في التشبه بالغرب واقتباس أخلاقه وحضارته، بل عن إغفالهم ما أوصى به دينهم، فأكد أن انحطاط المدنية العربية بدا حين ضعف جوهر الدين في نفوس القائمين به، فتجردوا عما كان قد كساهم به من فضائل، فانغمسوا في الشهوات وانصرفوا إلى ملذات الدنيا، ورأى أن تشبه المسلمين بالغرب واقتباس قيمه، فيه خوف على زوال الإسلام وامحاء الهوية إن تمادى المسلمون في التشبه، وأكد أن لا علاقة للدين بالتخلف الحضاري، فلقد كانت أوروبا تعاني من أشد عصورها ظلاماً بعدما تنصرت بألف سنة، وما دام الأوروبيون ينزهون دينهم عن أن يكون السبب في تخلفهم قديماً، فلا مبرر لاتهام الإسلام بأنه السبب في انحطاط المسلمين اليوم، فأراد أن يتمسك العرب بعاداتهم وقيمهم وأخلاقهم، على أنها جميعها سامية جميلة حسنة، لكنه رأى كذلك أن في الحضارة الغربية ما هو مفيد كالعلوم والفنون والصناعات، فدعا مواطنيه إلى الأخذ بها، ومن خلال هذه الآراء نحس برغبته في الانتقام لشرقه المتخلف مادياً عن الغرب، الذي استغل هذا التخلف ليبسط سيطرته عليه، وبالتالي فإن ما يعتبر تخلفاً أو تفوقاً في مقاييس الغرب ليس في الواقع كذلك، وبالتالي لا يعد الشرق متخلفاً، بل بالعكس إذ تميزت حضارته بقيم خالدة أسمى مما في المدنية الغربية. العربية لغة الكتاب المنزل وفي موقف أرسلان من اللغة العربية تصطرع كذلك النظرة الدينية والنظرة العلمية، فلأن اللغة العربية لغة الكتاب المنزل، انتقد أرسلان ترجمة القرآن والصلاة بغير العربية، ولم يبحهما إلا إذا عجز المسلم عن تلاوتهما بالعربية، وبسبب نظرته الدينية تلك خص اللغة العربية بمكانة لم يمنحها اللغات الأخرى، إلا أن هذه النظرة تصطرع وشعوره بأن اللغة ظاهرة اجتماعية تتطور بتطور أبنائها، وعلى رغم ذلك رفض التنازل عما أسماه «ديباجة اللغة الأصلية»، ولعله رأى تطور اللغة فيما يزاد عليها من مفردات فقط، وباستثناء ذلك تمسك بتعابير الماضي وأساليبه، ولم يشعر بأنها هي أيضاً تعبير عن الفكر الجماعي، لذا تكون مرآة أحواله ويستحيل أن يفي بالغرض ما عبر عن الحياة الجاهلية، فبين أنها تطورت لتلبي حاجات العصر السياسية والاقتصادية والعلمية، وهاجم مقلدي الشعر الغربي، وأكد أن الشعر العربي لا يكون شعراً إلا إذا وافق ذوق العرب، وعلى رغم اعترافه بأن الوزن والقافية سلبا الشاعر حرية التصرف في إبراز معانيه، إلا أنه أكد ضرورة المحافظة عليهما وعلى غيرهما من قيود الشعر القديم، ولعلنا نستنتج حرصه على الهوية التي رآها ممثلة في الأدب القديم، وقد جعله هذا الحرص يتخذ من أدب عصره موقفاً صارخ، فبينما شدّد على ضرورة تطوير العلوم والصناعات والفنون إن أراد الشرق اللحاق بركب الحضارة، لم يرَ أن الأدب مظهر من مظاهر الحضارة، وظن أن العربي بإمكانه أن يغير من علومه وصناعته وفنونه، من دون أن يغير من آدابه. وبين أرسلان أن أوروبا كانت في أسفل دركات الجهل والانحطاط حين كان العرب في ذروة مجدهم، وأن ما يعتز به الغرب الحديث من اكتشافات واختراعات قد سبقه إليه قدماً العرب، فعباس بن فرناس أول من حاول الطيران، وأحد العرب الأندلسيين اخترع الطباعة قبل غوتنبرغ الألماني بنحو أربعة قرون (غرائب الاغتراب، ج 2، ص 164، 165)، ولم تكن غايته من ذلك أن يجد في هذا الفخر عزاء وتعويضاً عن ذل الحاضر ووسيلة من وسائل استنهاض الهمم، بل نحس برغبة خفية في التقليل من قيمة المنجزات الغربية، رداً على ما أصاب العرب من ذل سياسي على أيدي الغرب. وحين حضّ على اقتباس العلوم الغربية، فصلها تماماً عن العلمانية التي يعتمدها الغربيون في بحثهم العلمي، بل انتقد هذه العلمانية، وحين طالب بالحرية والمساواة السياسيتين لم يبحث في العلاقة بينهما وبين ما نص عليه الإسلام، الذي دعا إلى التمسك بتعاليمه، ولم يرد أن تكون العقلانية خاصة بالغرب، وغريبة عما يدعو إليه القرآن، فأكد أنها من مبادئ الإسلام، فوفق بذلك بين هويته الشرقية وإيمانه بالعقلانية العلمية.