بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس مستوطنة كريات شمونه في شمال إسرائيل ألقى الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز كلمة خصص جزءاً واسعاً منها عن لبنان. تمنى بيريز ان يعود لبنان كما كان «سويسرا الشرق» وأن ينعم بالهدوء والاستقرار الكاملين. وأكد مجدداً أن إسرائيل ليست عدواً للبنان، وانها لم «تطمع قط في أي وقت مضى ولا هي تطمع في أي قطرة من مياه لبنان ولا في شبر من أراضيه». بصرف النظر عن الغرض من هذه الكلمة، فان ما جاء فيها يغذي نظرة تنتشر بين بعض السياسيين اللبنانيين مفادها أن موقف لبنان تجاه إسرائيل أملته عليه موجبات الصراع العربي - الإسرائيلي وليس ضرورات الدفاع عن سيادته ومصالحه المشروعة. وتقوم هذه النظرة على انه فعلاً، ليس لإسرائيل مطامع في لبنان وأن همها الأساسي هو ضمان الأمن الإسرائيلي ضد أي خطر آت من الشمال. تأكيداً لهذه النظرة يشار هنا الى أن الهدوء لبث مخيماً على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية الى أن اتخذته المقاومة الفلسطينية في لبنان قاعدة لشن الهجمات ضد إسرائيل. في ضوء هذا التصور، يدعو أولئك السياسيون الى اتباع لبنان سياسة حياد في الصراع العربي - الإسرائيلي. ان هذه الدعوة، التي تختلف اختلافاً أساسياً عن الدعوة الى الحياد في الصراعات العربية-العربية، تندرج في إطار قضايا رئيسية تثير التباساً كبيراً بين اللبنانيين. ويشير التقرير الوطني للتنمية البشرية في لبنان لعامي 2008-2009 الصادر عن برنامج الأممالمتحدة الانمائي «بعنوان دولة المواطن» الى هذه المسألة والى تداعياتها. فهناك التباس بين اللبنانيين حول «مسألة العدو والصديق». وهذا الالتباس يعكس اختلافاً في نظرة الشباب اللبناني الى قيم المواطنة ومفاهيم الانتماء الوطني، هذا فضلاً عن الاختلاف حول نظرتهم الى الوطن. استطراداً، يربط التقرير بين هذا الالتباس وبين استفحال الانقسام الطائفي بين اللبنانيين ليس بين الشباب منهم فحسب، وانما بين اللبنانيين عموماً. لا بد من الإشارة هنا، الى انه ليس من الضروري أن يكون لابن بلد، لبنانياً أو غير لبناني، من عدو حتى يحب بلده. بل انه لا حاجة لدى البلدان أصلاً للعدو وللأعداء. فأسعد المجتمعات حالاً في العالم هي تلك التي لا أعداء لها ولا أخطار خارجية تهددها. ولكن العامل المقرر في هذه المسألة ليس فقط نظرة هذا البلد الى الآخرين ولكن نظرة الآخرين إليه. فما هي حقيقة نظرة «الآخر» الإسرائيلي الى لبنان؟ أصحيح أن إسرائيل لم تطمع في شبر من أراضي لبنان ولا في قطرة من مياهه؟ توفر الوثائق التاريخية إجابات هامة على هذا السؤال. ومن هذه الوثائق المراسلات المتبادلة خلال عامي 1919 و1920 بين آرثر بلفور وزير الخارجية البريطانية صاحب الإعلان الشهير حول الوطن القومي اليهودي، ولويد جورج، رئيس الحكومة البريطانية، واللورد كيرزون، وزير الخارجية البريطانية الذي خلف بلفور في وزارة الخارجية البريطانية، وحاييم وايزمان زعيم الحركة الصهيونية. وتمحورت هذه المراسلات حول حدود الوطن القومي اليهودي. على هذا الصعيد قال وايزمان في رسالة وجهها الى لورد كيرزون ما يأتي: «إنني واثق أن سيادتكم تدركون حاجة فلسطين (يقصد إسرائيل) الملحة الى مياه الليطاني. وهذه الحاجة تبقى قائمة حتى ولو ضم اليرموك والأردن الى فلسطين. ان صيف فلسطين جاف جداً، ومياه الأنهار والبحيرات تتبخر بسرعة في هذه الفترة، ومن ثم فان مياه الليطاني ضرورية لري «الجليل الأعلى» ولاستمرار الطاقة الكهربائية، التي تحتاجها صناعتنا حتى ولو كانت محدودة. إننا إذا أخذنا مياه الليطاني لن نحرم لبنان من حاجته من المياه، لأن أراضيه غنية بها». «... ان فلسطين لن تكون مستقلة سياسياً إذا اقتطع منها الليطاني(...) وإذا كانت فلسطين فقيرة فانها لن تنفع أياً من القوى الكبرى». لم تعبر هذه الإشارة عن رغبة الصهيونية في ضم أجزاء واسعة من الأراضي اللبنانية الى الكيان العبري فحسب ولكن في ضم أراض أصبحت في ما بعد جزءاً من دول عربية أخرى. ففي نفس الرسالة يقول وايزمان: «يبدو لي (...) اني لم أوضح بما فيه الكفاية استحالة ضمان حقوقنا في مياه أعلى الأردن واليرموك إذا لم تدمج المناطق التي تمر فيها هذه الأنهار مع فلسطين، فالاستفادة من مياه النهرين تتطلب مشاريع هندسية مكثفة، كما تتطلب أعمال تشجير واسعة النطاق. ولسوف يكون مستحيلاً تحقيق مثل هذه المتطلبات أو نجاح أي مشروع تنموي سواء من الناحية المادية أو الاقتصادية، ما لم تصبح المناطق التي تمر فيها هذه المشاريع جزءاً أصيلاً من أراضي فلسطين». ويتحدث وايزمان بنفس المنطق والنهج عن المنطقة المحيطة ببحيرة الحولة وعن أراضي وادي الحاصباني وبانياس وأراضي وادي اليرموك والأراضي المحيطة ببحيرة طبريا. كذلك تؤكد المراسلات ان المطالبة بضم مياه الدول العربية المجاورة الى فلسطين والأراضي التي تمر بها لم يكن مطلباً عابراً بل أولوية كبرى لدى الحركة الصهيونية. فقد استنفر الصهاينة الصداقات والتحالفات التي بنوها مع الساسة الأوروبيين وفي طليعتهم بلفور للضغط على أصحاب القرار في بلادهم من اجل توسيع رقعة «الوطن القومي اليهودي». وسلط بلفور المزيد من الأنظار على المطالب الصهيونية في رسالة بعث بها في صيف عام 1919 الى لويد جورج رئيس الحكومة البريطانية قال فيها: «... عندما نرسم الحدود الفلسطينية، ينبغي أن يكون هدفنا الأول هو أن نجعل السياسة اليهودية ممكنة التطبيق عبر توفير كافة طاقات النمو الاقتصادي لفلسطين. وهكذا، فان الحدود الشماليةلفلسطين ينبغي ان نخطط لها على نحو يمنحها [الكيان الصهيوني الموعود] السيطرة التامة على كافة موارد المياه التي هي ملك فلسطين لا سورية». تقدم هذه المراسلات نقضاً صريحاً لكلام شمعون بيريز، فلماذا اختار الرئيس الإسرائيلي أن يكرر الادعاء بأن إسرائيل لا تطمع في شبر من أرض لبنان أو قطرة من مياهه؟ قد يقال هنا ان هذه المراسلات تعود الى مطلع القرن الماضي وانه منذ تلك الفترة تغيرت الأوضاع بما في ذلك أهداف الصهاينة والإسرائيليين. هذا صحيح. ولكن هل أن الأوضاع تغيرت على نحو يجعل الزعماء الإسرائيليين يتخلون عن المشاريع التي تحدث عنها وايزمان؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يصارح بيريز اللبنانيين قائلاً بأن الحركة الصهيونية كانت في الماضي ترغب في ضم الليطاني وحوضه، الى إسرائيل، وأن الأوضاع المستجدة أقنعت الإسرائيليين بالاستغناء عن هذه المشاريع؟ الأوضاع تغيرت بالفعل. الحركة الصهيونية التي كانت لاعباً هامشياً حتى على المسرح اليهودي العالمي، تحولت الى فاعل رئيسي على مسرح السياسة الدولية، وأنجبت كياناً يملك واحداً من أقوى الجيوش وترسانة ذرية تجعلها القوة النووية السادسة في العالم. هذه التطورات لا تجعلها اقل حاجة الى المياه الفلسطينية والعربية بل أشد عطشاً إليها وأكثر تصميماً على السيطرة على منابع هذه المياه وممراتها. كذلك فان هذه المتغيرات لا تجعلها اقل قدرة ورغبة في التوسع، بل العكس. ألا يحتل الإسرائيليون اليوم الجولان؟ ألا يعتبرون حاجتهم الى مياهه مبرراً للاستمرار في احتلاله؟ قال الشاعر البريطاني الشهير جورج هربرت مرةً: «دلني على مخادع، أدلك على سارق». ويلخص هذا القول حقيقة التأكيدات المتكررة التي يدلي بها الزعماء الإسرائيليون حول نيات إسرائيل الطيبة والمسالمة تجاه لبنان. فالمقصود بهذه الكلمات هو تخدير اللبنانيين بحيث يتخلون عن أي مشروع لبناء قوة رادعة ضد مشاريع إسرائيل التوسعية في الشمال. إذا تم لهم ذلك ينتهي دور المخادعين من أمثال بيريز لكن يبدأ دور السارقين مثل المستوطنين في الضفة الغربية للسطو على مياه لبنان بأقل كلفة ممكنة. هذه التصريحات والإعلانات جديرة بأن تجعل اللبنانيين أكثر تصميماً على بناء القدرة الرادعة، وعلى تحقيق «أمنية» بيريز أي تحويل لبنان الى «سويسرا الشرق». لقد تمكنت سويسرا بفضل برنامج خدمة العلم من حل إشكالات الالتزام الوطني ومن بناء القدرة الرادعة معاً. تعداد الجيش السويسري النظامي الحالي يصل الى 200 ألف مزودين بأحدث الأسلحة. لبنان قد لا يتمكن في ظروفه الراهنة من تكوين قوة رادعة بهذا الحجم ولكنه قادر على تنمية القوة التي يملكها باستمرار حفاظاً على حقوقه وأمنه وسيادته. إعادة تطبيق خدمة العلم هو خطوة صحيحة على هذا الطريق. * كاتب لبناني.