تبدو الثورة السورية اليوم ثورةً قصيّة، بمعنى أنّها وضعت أو ستضع الكيان ومعه الجميع، وإن لم يكن دفعةً واحدة، في أوضاع قصيّة لا مكان فيها للوسطية ولا تجدي معها نفعاً المقاربات التوفيقية أو الحلول بالتراضي. هنا، لا مكان لإعادة التموضع المرحلي ولا لفلسفة الشرق حيث لا غالب ولا مغلوب، أحدهم عليه أن ينتصر في النهاية وآخر عليه أن يهزم، وسواءً كان النصر أو كانت الهزيمة فإن على كليهما أن يكون قطعياً ومطلقاً. عدا هذا، يؤسس ما ندعوه اليوم بالسوريين لثورتهم المقبلة، ومعها بؤس مهول قد يمضي بعيداً خلف هذا الذي نراه اليوم أقصى في التفتت والتوحش، إلى ذاك الآتي الأكثر هولاً وتفتتاً وبطبيعة الحال... توحشاً. ولكن، لماذا هذا الأقصى الذي يحدث؟ بالفعل، تبدو الإجابة عصيّةً على التبسيط، أقلّه لأنّ الوضع ليس بسيطاً. ثمّة في النهاية صراع مركّب وإن استبطن طبيعةً واحدةً بسيطة، وهي الإسقاط المتدرّج لقواعد الاشتباك المجتمعية. قد يحاجج البعض هذا الإسقاط من خلال القول إنّ المسؤول عن الدفع بالأمور لتأخذ هذه الطبيعة الكيانية الوجودية هو الطغمة الحاكمة التي لم تتوانَ عن التحطيم الممنهج لقواعد الاشتباك المجتمعية مع ما يتبع هذا من خلق أحقاد وصدوع لا سبيل إلى رأبها. ما سبق صحيح، ولكن الصحيح أيضاً أنّ التحطيم الممنهج لحرمات الصراع قد ترافق مع صمت مسّ حدّ التواطؤ من قبل شرائح واسعة مجتمعية لم تلاق حرجاً في تغطية القتل والتنكيل، وحتى الاغتصاب طالما أنّه يخدم استقرارها - الموقت على أي حال - وطالما أنّه لا ينالها. إنّها على أي حال طبيعة مؤسفة ومتأصلة في هذا المركّب الذي يحدث، وهي تدفعه وفي شكل تدريجي ولكن نحو أوضاع قصوى لا حدود لها، أللّهم إلا استنزاف الصراع لذاته حتى الرمق الأخير. ولكن، ماذا دفع الصراع ليغدو مركّباً؟ في النهاية، الثورة السورية انبثقت بأصالة من رحم المعاناة السورية، وهي أقلّه في انبلاجها الأول ثورة بسيطة، أطروحاتها بسيطة، ومنطوقها بسيط، تماماً كما هي معاناة السوريين بسيطة: خرج سوريون عاديون... مهمشون، طبقة وسطى، وحتى بعض الموسرين، خرجوا كما خرج من قبلهم عاديون في بقاع أخرى من هذا العالم، خرجوا وقد أعياهم فيض القمع والغياب المهول للحرية وطالبوا بأشياء بسيطة: الحرية، الكرامة... وهم أرادوا حينها الحرية الفردية، الكرامة الفردية، تكافؤ الفرص... هذه مطالب بسيطة وتمس حياتهم البسيطة وحياة أطفالهم... تعليم أفضل، صحة أفضل، ومستقبل «فردي» أفضل... كلّ شيء حينها كان مطلق الفردية، حداثياً مناقضاً للجمعية، لا عقائدياً، وبسيطاً. من ناحيته أيضاً، تبدو حقيقة النظام السوري بسيطة، أقلّه بمنظور حداثي، تختصر مقاصده الوجودية بالبقاء في السلطة، وحتى لجوؤه إلى العنف يبدو طبيعياً في هذا السياق، وكذلك نزوعه إلى تحطيب قواعد الاشتباك المجتمعية التي تحدّه يبدو متوقعاً، في النهاية، لقد فعل الأسد ومعه الطغمة الحاكمة السورية ما كان ليفعله أيّ مستبد. إذاً، من أين أتى التركيب؟ حسناً، لقد أتى من الطبيعة المركّبة للحاضن المجتمعي السوري. يجب ألا ننسى في هذا السياق أنّ الحداثة لم تزل هشةً وطارئة في هذا الفضاء المجتمعي الريفي الطابع، وكذلك تبدو الهوية الوطنية أقلّه بمعناها الحداثي أضعف من أن يعول عليها. على العكس، تبدو الهوية الوطنية عبئاً مضافاً على الثورة وصراعها البسيط من أجل الحرية. وفي هذا السياق يدرك المرء مدى الضحالة وحتى الانفصال عن الواقع هذا الذي أبدته النخب الفكرية السورية، أو لنقل فصاميتها في مقاربة الصراع، ذلك أنها سعت إلى تبسيطه من دون أن تقارب الواقع المجتمعي الحاضن له، وهذا لم يكن فقط محكوماً بالفشل الذريع ولكنّه أيضاً ساهم في دفع الصراع ليغدو أكثر وجوديةً وأقلّ قابليةً للحل. النظام السوري في النهاية ليس أكثر منعةً، تماسكاً، أو حتى هوجائيةً من سواه من الأنظمة التوتاليتارية في العالم، ولكنّ الهوية الوطنية السورية كانت أكثر تفتتاً وضبابية، وأقلّ عمقاً، وتجذراً، وحتى إقناعاً من سواها. بهذا المعنى، كان للثورة السورية بعد آخر مجتمعي (السّنّة)، وكذلك حال النظام (العلويون)، وهذا أضفى على الصراع طبيعته المركّبة. أبعد من هذا، حين بلغ التأزم سوية الوجود - العدم لجأ النظام أولاً، ومن بعده الثورة، كلّ بدوره، إلى حاضنه المجتمعي، وبالتالي هويته المعرفية ما قبل الحداثية. كيف كان لهما ألا يفعلا! أكان يفترض بهما أن يقبلا الهزيمة! يسلّما بها! لم يحصل هذا على أيّ حال. في الواقع، دخل الصراع حقبة «ما بعد الثورة»، وهذه حقبة مختلفة وفيها ابتلع أو سيبتلع الثورة حاضنها المجتمعي في صيغته ما قبل الحداثية، لأنّه أعمق منها وأكثر أصالةً، وبالتالي أكثر قدرةً على البقاء في مواجهة التأزم الوجودي. وكذلك فعل أو سيفعل حاضن النظام المستبد به، وهذا أحال أو على وشك أن يحيل الصراع بالضرورة إلى صراع مركب، قصي، والأهم خاطئ وعبثي. المعضلة الكبرى في هكذا صراع أنّه لا ينتهي، ذلك أنّ أياً من الهويات المعرفية ما قبل الحداثية لن تستسلم للأخرى، والمعضلة الكبرى الأخرى أنّ الفضاء الفكري السوري لا يزال بعيداً من مقاربة الصراع بطريقة ناجعة، أقلّه بعيداً من التبسيط، الأيديولوجيا التي لم يعد لها وقع على الأرض، أو حتى بعيداً من الهوية الوطنية بصيغتها القديمة التي ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنها عاجزة، هذا إن لم نقل أنّها بالية وخرقة. ما الحلّ إذاً؟ حسناً، إما فكّ الاشتباك بين الهويات المعرفية، وهذا بالمناسبة سيحصل ولو بعد حين، وسيكون فجاً ولا حداثياً على نحو مؤلم وغير مسبوق، وهو بالتالي سيؤخّر الانعتاق التالي والحتمي للجماعات البشرية المستلبة كلّ في كيانها الوطني الجديد، وإما الخوض في عملية تفكيك معرفي للهوية الوطنية القديمة والمهترئة، ومن ثمّ إعادة صوغها حداثياً لتغدو واقعيةً، حقيقيةً، وقادرةً هذه المرة على تخليص الجميع من استلاباتهم ما قبل الحداثية (طائفيةً، دينيةً، أو قومية). على أنّ كلّاً من الخيارين السابقين يحتاج إلى رافعة تقوم به، ورافعة الخيار الأول متوافرة، جاهزة، تمتد قروناً في التاريخ، وهي قيد العمل، أما رافعة الخيار الثاني فهي لا تزال فصاميةً وأسيرة الماضي الذي أخفق، وهي غدت بكلّ حال تحتاج إلى الغرب مع ما يقتضيه الأمر من تنازلات سيادية قدمتها هويات وطنية أخرى حين وضعت في مواجهة أوضاع قصوى مماثلة... * كاتب سوري