هل يمكن أن يتحول الإعلام يوماً إلى أداة تسويق للجريمة؟ سؤال يبدو غير منطقي لدى كثير من زملاء الحرف والكلمة، إلا أن القانونيين يرونه «ممكناً»، بل يرون أن الإعلام، بشتى أنواعه، أسهم من خلال نشره تفاصيل بعض الجرائم في التعريف بطرق تنفيذ الجرائم ووسائلها التي قد تخفى عن الأذهان. «الحياة» تستطلع رأي قانونيين، للوقوف على جوانب القضية. فمتى يجب أن يعلم المجتمع عن جريمةٍ ما؟ ومتى يجب أن تكون بعض التفاصيل مخفية؟ ويرى المحامي عبدالعزيز الخريف أن نشر الجرائم في الإعلام «يجب أن يكون في حدود الأنظمة المعمول بها في الدولة، والقواعد المهنية، من خلال توافر الأدلة الكافية، وثبوت الجريمة قبل نقلها، حتى يكون النقد والنقل مبني على أدلة شرعية، ووقائع قانونية لا تقبل الشك أو التخمين، حتى لا تتعرض الجهة الإعلامية لجزاءات، نتيجة تسرعها في عدم التأكد ونقل وتوثيق المعلومة، ومدى حجيتها القانونية في حال تعرضها لدعوى قضائية». ويؤكد الخريف أن الإعلام بشتى وسائله «يؤدي رسالة للمتلقي، وفي الغالب يكون لإظهار حقيقة ما أو إيضاح للمخالفين والمنتهكين للحقوق»، مشيراً إلى تعدد أسباب نقل الجريمة في الإعلام، ومنها «الرغبة في التوعية بخطورة مثل هذا المسلك»، لافتاً إلى أن الإعلام يهدف إلى «إصلاح المجتمع من الناحية الاقتصادية والسياسية والأخلاقية من خلال ما يعرض فيها». إلا أن يستدرك أن «انتهاك الإعلام لحدود عرض الجريمة يعرضه للمقاضاة. ففي هذه الحال يحق لذوي الشأن والمتضررين من هذا النقل التقدم للجهة القضائية المختصة، والمخولة بموجب النظام لمقاضاة الجهة الإعلامية عما نشر عنهم من أقوال تعد من السب أو القذف أو التشهير لوقائع غير موثقة من دون دليل أو مستند شرعي أو نظامي». ويستند الخريف على نظام المطبوعات والنشر حول الجرائم التي ترتكبها الصحيفة الذي «تنص بإتيانها أحد الأفعال المنصوص عليها في هذا النظام، ومنها على سبيل المثال، ألاَّ تؤدي إلى إثارة النعرات، وبثّ الفُرقة بين المواطنين، وألاَّ تؤدي إلى المساس بكرامة الأشخاص وحرياتهم، أو إلى ابتزازهم أو إلى الإضرار بسمعتهم أو أسمائهم التجارية. كما يجرم النظام تحبيذ الإجرام أو الحث عليه أو الإفشاء بوقائع التحقيقات أو المحاكمات، إلا بعد الحصول على إذن من الجهة المُختصة. وعليه، فيلزم لنقل الجريمة كونه من النقد الموضوعي البناء الهادف إلى المصلحة العامة، والمستند إلى وقائع وشواهد صحيحة. والأصل أن الإثبات يتم بالطرق القانونية كافة. وفى جرائم الإعلام يكون الإثبات فيها بمجرد حدوث النشر. وهنا يقع عبء الإثبات على المتضرر الذي يجب عليه أن يثبت حدوث العلانية في ما يتعلق بالخبر أو المادة الإعلامية». ويحدد المسؤول في نقل الجرائم الإعلامية، بالقول: «إن النظام حدد الجهة المختصة بالتحقيق في جرائم النشر، وهي لجنة مكونة داخل وزارة الثقافة والإعلام عند إقامة الدعوى لتُنظر في المُخالفات، والمسؤولية الجنائية تعني تحديد الشخص الذي قام بفعل يُعد من جرائم الإعلام وأهلية توقيع العقوبة عليه. ونظراً إلى وجود أكثر من شخص يشترك، فإن المسؤولية الجنائية في هذه الحالات تكون تضامنية، أي جميعهم مسؤولون بالتضامن عما نشر أو بُثّ». أما في حال النقل الصحافي، فحدد النظام الأشخاص المسؤولين عن الجرائم الصحافية، وهم «كاتب المقالة، ورئيس التحرير، والناشر، والمشرف، والموزع، والبائع»، مقترحاً «تخصيص المواد الإعلامية الخاصة بالجريمة لفئة محددة كالمدعي العام والقاضي والمحامي، ليتم الاطلاع على أساليب وطرق كشف الجريمة»، منوّهاً إلى أن الأفلام الأجنبية «تزخر بارتكاب جرائم القتل والسرقات، والتخطيط لها بوسائل مبهرة، وتدفع إلى المحاكاة والتقليد». وطالب الإعلاميون ب«تقديم مادة إعلامية هادفة، ترتقي بالنشء والمجتمع بأسره وتدعم الوقاية. وإن كان لا بد أن ننشر أو نمثل الجريمة والعنف، فليكن ذلك بصورة صحيحة ودقيقة، لإبراز ما فيها من مساوئ ومفاسد، تعود على المجتمع بالخزي والعار». وحذّر من «نقل الجريمة إلا بعد ثبوتها، واكتساب الحكم القطعية، والحصول على الإذن من صاحب الصلاحية. أما إذا كان مصاحباً للتحقيق، ولم يكن التحقيق انتهى بعد، فإن ذلك يخالف مقتضيات النظام، وفي بعض الحالات يعتبر تشهيراً يعاقب عليه النظام، لإساءته إلى قيم المجتمع. ويلزم شركات الإنتاج القيام بالإجراءات القانونية لأصحاب الحقوق وذويهم من الأشخاص الذين سموا في الإعلام وكذلك الضحايا. وهل تم توقيع على أي عقد يتعلق في حق الصورة». ويؤكد على أنه «لا يجوز تصوير شخص في حال اعتقال أو يحمل أصفاداً أو قيوداً من دون موافقته. وكل من يقوم بنشر صورة أخذت في هذه الظروف من دون إذن صاحبها، يكون معرضاً للمساءلة القانونية، وبناء على شكاية من ذوي الحقوق من متهمين أو ضحايا». وأضاف إن «هناك حقوقاً للمشاهد لا بد أن تصان، وفقاً لحق الوطن والمواطنة بما يقتضي بعدم مسّ الكرامة لبلد أو قبيلة أو فئة أو الدين الإسلامي الحنيف ومبادئه العظام، حفظاً للضروريات الخمس التي أولتها الشريعة جل الاهتمام». ويصف المحامي أحمد الباشا «تعاطي الإعلام الغربي» ب«العقلاني نوعاً ما»، مستدلاً ببعض الأحداث الصحافية التي جرت خلال الأعوام الماضية، وقال: «تصنف قضايا قتل الأمهات لأبنائهن ضمن القضايا المثيرة. لكننا، ووفق طرح إعلامي، نجد الخبر مجرداً، وبجانبه صورة للقاتلة فحسب، إذ لم تجرِ العادة أن تُنشر صور للمجني عليهم، وهم ممزقو الأشلاء بلا إنسانية. في تلك الدول الجريمة معتادة، لكننا نلمس الرفق الذي تتعامل به وسائل الإعلام مع القارئ أو المشاهد، حفاظاً على النفس البشرية، حتى لا يؤدي الأمر إلى تبلد المشاعر النبيلة في الإنسان». ويشير الباشا إلى «الصحف الصفراء» التي «تترصد أخبار الجريمة والفاحش من الأفعال، التي تشمئز منها الروح السوية من دون الوعي بأن الجانب الإعلامي، سواء أكان مقروءاً أم مرئياً، يُعد واجهة للجسم الذي يمثله كدولة أو شركة أو مؤسسة، وهذا ما ندر لمسه من خلال بعض المؤسسات الصحافية التي تحترم رسالتها المهنية». ولفت إلى أن «بعض القنوات الإخبارية كثيراً ما تسقط في هذا الخطأ عند نشرها لقطات متتابعة، ترسم أبشع الصور التي تحدث في الوجدان شرخاً نازفاً، من البشاعة والفجيعة والحسرة والألم بجانب التحفيز والإغراء بالفعل لضعاف النفوس ذات الإرث النفسي أو الاجتماعي المليء بالاختلال». وحول نتائج التوسع الإعلامي في نشر أخبار الجرائم، يذكر أنه «يساعد في انتشارها، ويشجع على ارتكابها، وبخاصة أنه غالباً ما تمر فترة زمنية طويلة بين وقوع الجريمة وصدور الحكم فيها، بحيث لا يقرن نشر الجريمة بالعقاب الذي يناله المجرم، وتم تأكيد هذا الاتجاه في دراسات وأبحاث علمية أثبتت تأثر الشباب بالجرائم التي تنشرها وسائل الاتصال الجماهيري، إذ إن بعض الشباب يقوم بتقليد هذه الجرائم»، لافتاً إلى أن «الإسراف في نشر هذه الجرائم قد يشيع الاضطراب بين الجمهور، ويوحي بالانفلات الأمني، ويدعو بعض ضعاف النفوس إلى التقليد، كما أن نشر الجرائم من دون نشر العقوبة أو نشر القبض على مرتكبيها أو نشر عقوبات غير كافية لمثل هذه الجريمة يضر ضرراً بليغاً، ويدفع المجتمع إلى الاستهانة بمقدرات الأجهزة الأمنية والعدلية، ما يؤدي إلى تزايد الاعتماد على النفس، وخرق القانون، والنظام العام. ويضعف هيبة الدولة، وهي مؤشر على وجود عدد لا يستهان به من المجرمين». ويصنف مهمات العمل الإعلامي ب«نشر الوعي والثقافة العامة، وتأصيل وتأطير قيم المجتمع والأمة التي ينتمي إليها، ويكون له دور إيجابي في حمل النسيج الاجتماعي كافة، على التحلي بالقيم ومبادئ التسامح والتآخي في الإطار المجتمعي، والحفاظ على هوية الأمة بجانب المحافظة على الذوق العام للمجتمع المنسجم مع موروثه». ويطالب الأجهزة الإعلامية ب«النموذجية في التعاطي مع مثل هذه الأحداث والجرائم، لأن لديها رسالة تنبع من قيم وسماحة الدين الإسلامي»، مضيفاً أن «الشرع الحنيف رغب في ستر الفواحش من الأعمال، بل جعل ضعفين من العذاب لمن يجاهر بالإثم، فأولهما لأنه أقدم على الفعل، وثانيهما لأن الله ستره فأبى إلا أن يجاهر بما فعله». ولفت إلى أن «ما تفعله أجهزة الإعلام يتنافى مع القيم الإسلامية»، متسائلاً: «ما معنى أن تنشر صور أشلاء إنسانية، بحيث تجعل مثل هذه الصور يألفها الإنسان العادي، بل تكون سبباً لاتباع السلوك الإجرامي الذي رآه بأم عينيه، ودافعاً لحل كثير من مشكلاته التي لا يرى لها حلاً إلا بذات الطريقة؟». ويرى الباشا «أن تكون رسالتنا الإعلامية نابعة من صميم أصل الدين والدنيا، لنعلو ونرتقي بها إلى أسمى الغايات، ولا نقول أن نغض الطرف، بل نعالج ما ينتج من سلوك إجرامي عبر مؤسسات تبصر المجتمع بخطورة مثل تلك الجرائم التي يتأفف منها كل مؤمن كامل»، مضيفاً أنه «نظراً إلى خطورة هذه الجرائم بمختلف درجاتها الجنائية، ولارتباطها بالنسيج الاجتماعي، يجب الاقتراب الإعلامي منها بمنتهى الحذر، ولا بد من تحديد ما ينشر، ويفيد الفرد والمجتمع».