سلّط الإعلان عن بناء وحدات استيطانية جديدة في القدسالشرقية الضوء على المدينة، غير أن التغيّرات التي طرأت عليها منذ عام 2000 أوسع وأعمق جذوراً، فلم تعد القدسالمدينة التي كانت في تسعينات القرن الماضي، عندما بدأ الإسرائيليون والفلسطينيون التفاوض حول مصيرها للمرة الأولى، مما يعقّد مهمة تقسيم القدس وفقاً للصيغة التي اقترحها الرئيس بيل كلينتون آنذاك. لقد بات شائعاً القول في بعض الأوساط إن التقسيم لم يعد قابلاً للتنفيذ بالنظر إلى تسارع بناء المستوطنات والشكل الذي اتخذته هذه. إلاّ أن التقسيم ليس علماً دقيقاً في أي حال، نظرياً على الأقل، فإذا توافرت الرغبة والإرادة لدى واضعي الخرائط وصُناع القرار، فإنه لا يزال في الإمكان تطبيق المبدأ نفسه، وإن لم يكن على الخط الذي رُسم قبل اثني عشر عاماً. إلاّ أن ثمة أمرين لا يقبلان الجدل. الأول هو أن توسع المستوطنات والأحياء اليهودية في القدسالشرقية يرفع الكلفة السياسية للتقسيم وبالتالي يقلل احتمال حدوثه. الواقع الثاني هو أن التغيّرات التي طرأت في إسرائيل والمنطقة صعّدت من المطالب الدينية والتاريخية في المدينة. وحالما تُستأنف المفاوضات، سيكون على كل طرف الإقرار بروابط الطرف الآخر بالقدس وبمواقعها الدينية، وسيكون على كلا الطرفين الانفتاح على حلول خلاقة تنسجم مع هذا المناخ الجديد الناشئ. منذ وضع كلينتون معاييره، ارتفع عدد السكان اليهود في القدسالشرقية بشكل كبير في ثلاثة أحزمة حزام خارجي يحدد القدس الكبرى، وحزام متوسط يحيط بمركز المدينة، وحزام داخلي يمر بمركز المدينة تشكل بذلك بنية المستوطنات الإسرائيلية داخل المدينة وحولها. وفيما يتمركز معظم النمو حتى الآن في مناطق كانت مبنية بالأصل، إلا أن بناء المستوطنات خلال الأعوام الخمسة والأربعين الماضية كان مكثفاً إلى درجة جعل حتى التوسعات الصغيرة في المواقع الاستراتيجية بمثابة ضربة قاضية لأي احتمال لتقسيم المدينة يوماً ما. في ما يتعلق بمسألة الأرض، ثمة نقاط ملتهبة وحرجة أهمها شريطان أفقيان: الأول في وسط القدس وآخر في جنوبها من شأنهما توسيع البناء من الغرب إلى الشرق عبر كامل أراضي البلدية وإلى ما وراءها. لقد كان التخطيط للوحدات السكنية في الشريحة الوسطى (المسماة ه 1)، والشريحة الجنوبية (بما في ذلك مستوطنة جديدة، الأولى في القدس منذ بناء هارهوما (جبل ابو غنيم) عام 1997، والمعروفة باسم كيفات هاماتوس) معلّقاً منذ أعوام بسبب الضغوط الدولية أما الآن فقد تم استئنافه. تعتبر منطقة ه 1 شديدة الضرر لأنها ستفصل القدسالشرقية عن الدولة الفلسطينية وتقطع توسّعها العمراني. وفي جنوبالقدس، تهدد الوحدات الاستيطانية الإسرائيلية الجديدة بتطويق بعض الأحياء العربية بشكل كامل. وما هذان سوى مشروعين فقط من المشاريع الاستيطانية المثيرة للقلق التي دفعت بها الحكومة الإسرائيلية عقب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 بإعلان فلسطين دولة مراقبة غير عضو في الأممالمتحدة. من بين كل أعمال البناء الجارية في المدينة، فإن النقطة التي يحتمل أن تسبب انفجاراً أكثر من غيرها تقع وسط المدينة، حيث تسارعت عمليات البناء الاستيطاني اليهودية داخل الأحياء الفلسطينية الكثيفة السكان. وتقع في مركز النزاع هنا الساحة المقدسة، أو ما يعرف بجبل الهيكل بالنسبة لليهود والحرم الشريف بالنسبة إلى المسلمين، وهو ما سيكون له أثر كبير جداً على الصراع. التطورات السياسية ذات المضامين الدينية في إسرائيل خلال الخمسة عشر عاماً الماضية دفعت إلى المطالبة بإقامة شعائر العبادة في هذه الساحة، مما يمكن أن يشكل قضية انفجارية بالنسبة الى الحلول السياسية التي قد تسعى إليها إسرائيل في وقت لاحق. ثمة تطور موازٍ حدث على الجانب الفلسطيني، فمن شبه المؤكد أن إضعاف الحركة الوطنية غير الإسلامية مصحوباً بتنامي نفوذ «حماس» سيعيق السعي إلى تسوية حول هذا الموضوع. لا تزال المسألة في أيامها الأولى، إلاّ أن ثمة ما يبرر الاعتقاد أن صعود «الإخوان المسلمين» وتنامي دور الرأي العام في أنحاء المنطقة سيجعلان من الصعوبة على القادة العرب التوصل إلى حلول يمكن خصومهم أن يصوروها على أنها تتعارض مع المبادئ الإسلامية. أي دولة فلسطينية؟ يعتقد بعض منتقدي السياسة الإسرائيلية أن تسارع بناء المستوطنات وسط المدينة، وتعدّي المستوطنات اليهودية على المناطق العربية في الحزام الأوسط وتسارع عمليات التخطيط للمنطقة ه 1 والحزام المرتبط بها على الطرف الجنوبي تهدد قابلية أي دولة فلسطينية للحياة. إلاّ أن آخرين يجادلون بأن كل ما بُني نتيجة الإرادة السياسية يمكن أن يُفكك أيضاً بفعل الإرادة السياسية. إن كل من الحجتين تبني على جزئية صحيحة، ذلك أن القابلية للحياة مفهوم مطاط ورأي سياسي شخصي يرتدي لبوس الواقع الموضوعي. فالادعاءات بأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وصل إلى نقطة حرجة في ما يتعلق بالأرض تظهر بشكل متكرر دون أي سند عملي أو بيانات مقنعة. إلاّ أن فكرة أن كل ما بني يمكن تفكيكه مضللة أيضاً، اذ أنها لا تأخذ بالاعتبار أن الكلفة السياسية لإخلاء أو هدم مستوطنة أكبر بكثير من الكلفة السياسية لبناء مستوطنة أو توسيعها، خصوصاً بالنظر إلى القانون الذي صدر عام 2010 والذي ينص على أن أي انسحاب من القدسالشرقية يتطلب استفتاءً شعبياً أو موافقة ثلثي أعضاء الكنيست. قد يجادل البعض بأن أياً من هذا لا طائل له بالنظر إلى عدم وجود المفاوضات أصلاً. لقد بات كثير من الفلسطينيين، وربما معظمهم، يعتقدون أن عملية أوسلو بمجملها قد انتهت. وفي الوقت نفسه، فإن كثيراً من الإسرائيليين، وربما معظمهم، مقتنعون بأن الحركة الوطنية الفلسطينية ليست في وضع، يجعلها تفكر في تقديم التنازلات الضرورية. ثمة حاجة إلى رؤية أكثر ايجابية، فقد حان الوقت لنفض الغبار عن المقترحات القديمة المتعلقة بالمدينة، وتحديثها في ضوء المقترحات التي لم تنجح قبل عقد من الزمان والتغيّرات التي حصلت منذ ذلك الحين. كما أن الوقت لم يتأخر على تقديم دعم أكثر قوة للوجود العربي وخصوصاً بناء المساكن في الجزء الشرقي من المدينة، بدلاً من الاكتفاء بمعارضة بناء المستوطنات اليهودية هناك. على المجتمع الدولي، بما في ذلك الأردن، أن يدفع باتجاه زيادة عدد المباني السكنية العربية، على شكل بناء أحياء جديدة - علماً أنه لم يُمنح ترخيص لبناء حي واحد خلال الأعوام الخمسة والأربعين الماضية - وبناء مساكن جديدة في الأحياء القائمة. وهذه المسألة لا تتعلق فقط بالحق بالسكن، بل تعتبر مسألة سياسية جوهرية لتحسين قدرة الفلسطينيين على البقاء في المدينة وحماية القدس العربية. عديدة هي الأسباب التي تدعو إلى التشاؤم، وثمة عقبات كثيرة تقف في طريق التوصّل إلى اتفاق. إلاّ أنه سيكون من الخطأ أن يرفع المجتمع الدولي يديه ويستسلم. حتى مع سعي المجتمع الدولي لإعادة صياغة عملية السلام فإنه يبقى من الضروري منع بناء المستوطنات في المنطقة ه 1، وحماية الأسس المتعلقة بالأرض التي من شأنها أن تسمح في النهاية بتقسيم القدس على نحو حساس وتهيئة الأرض للاعتراف بالمطالب المتبادلة في المدينة. * مدير المشروع العربي - الإسرائيلي في «مجموعة الأزمات الدولية»