تشير معلومات إلى إمكان تحول مصر من دولة مصدرة للغاز الطبيعي إلى دولة مستوردة له بسبب تناقص الإنتاج والزيادة الكبيرة للاستهلاك. فخلال السنوات الأخيرة، جرى تحويل معظم محطات توليد الكهرباء لتعمل بالغاز بسبب وفرته محلياً، وبهدف تقليص الكلفة المترتبة على الخزينة العامة لتوليد الكهرباء، والحد من عوامل تلوث البيئة. وخير دليل على النقص الحاصل في إنتاج الغاز هو الصعوبة التي تواجهها الحكومة في تأمينه لمحطات الكهرباء خلال فصل الشتاء حين ينخفض الاستهلاك عادة، مقارنة بفصل الصيف. وبهذا تنضم مصر إلى دول عربية أخرى، مثل العراق ولبنان، في عدم التمكن من تزويد المستهلكين بالكميات اللازمة من الكهرباء في شكل مستمر ومن دون انقطاع، علماً بأن المعدلات العالية لزيادة استهلاك الطاقة أصبحت ظاهرة خطرة في كثير من الدول المنتجة للبترول في الشرق الأوسط، تهدد الاستمرار في معدلات التصدير الحالية. في تقرير لمركز معلومات مجلس الوزراء المصري نشرت «الحياة» ملخصاً له ورد الآتي: تراجع إنتاج الغاز الطبيعي 0.09 في المئة إلى 419 ألفاً و72 طناً بين كانون الثاني (يناير) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2012، بينما ارتفع الاستهلاك نحو 6.6 في المئة إلى 360 ألفاً و39 طناً، كما زادت صادرات الغاز الطبيعي ومشتقاته سبعة في المئة إلى 1.974 بليون دولار. ويعتبَر انخفاض الإنتاج وزيادة الاستهلاك في آن أمراً غير متوقع. وتدل معلومات نشرة «ميدل إيست إيكونوميك سيرفي» (ميس) إلى نقص أصاب إنتاج الغاز المصري خلال ثلاث سنوات متتالية، إذ سجل أعلى مستوى له وهو 62.7 بليون متر مكعب عام 2009، ثم انخفض تدريجاً ليصل إلى نحو 60.6 بليون متر مكعب عام 2012، وهذا يعادل انخفاضاً بنسبة ثلاثة في المئة. وارتفاع مستوى الاستهلاك المحلي للغاز نحو 10 في المئة عام 2011 أمر ملفت، فهو عالٍ جداً، مقارنة بالزيادات السنوية في دول أخرى، وهو حصل على رغم الثورة والاضطرابات الداخلية وانخفاض النمو الاقتصادي خلال العام ذاته. وكان متوقعاً، بحسب دراسة أصدرتها «ميس» أخيراً، أن تؤمّن الاكتشافات المصرية المستمرة للغاز الطبيعي في البحر المتوسط الإمدادات اللازمة لتلافي الزيادة في معدلات الاستهلاك، وأن يرتفع مستوى الإنتاج إلى نحو 69 بليون متر مكعب سنوياً بحلول 2013. وكان الاعتماد الرئيس في زيادة الإنتاج هذه على إنتاج شركة «بي جي» البريطانية من حقل «غرب الدلتا العميق البحري». ولكن التأخر والإخفاق في بعض مراحل هذا المشروع أديا إلى انخفاض الإنتاج خلال 2012 نحو 1.2 بليون متر مكعب عما كان هو مخطط له. ويُتوقع أيضاً انخفاض آخر خلال 2013 بنحو 1.8 بليون متر مكعب عما كان مخططاً له. لكن وفي الوقت ذاته، هناك بعض النجاحات الملحوظة، إذ تمكن كونسورتيوم بقيادة شركة «بي بي» البريطانية و»إيني» الإيطالية من زيادة مستوى إنتاج الغاز إلى خمسة بلايين متر مكعب سنوياً في امتياز «رأس التينة البحري» في أواخر 2012، وفي زيادة الإنتاج من حقل «سيث» إلى الضعف في منتصف 2012. إلا أن الإنتاج من حقل «دلتا غرب النيل» التابع لشركة «بي بي» والذي كان مخططاً له أن يكون من الحقول المصرية البحرية الأهم، واجه تأخراً متكرراً بسبب معارضة سكان المناطق القريبة لتشييد معمل الإنتاج. وعلى رغم تعيين موقع جديد للمصنع، تأخر الإنجاز المتوقع للمشروع من 2014 إلى 2016. وتشهد حقول الغاز المصرية في البحر المتوسط معدل انخفاض في الإنتاج يبلغ نحو 10 في المئة سنوياً. لذلك يستدعي الحفاظ على مستوى الإنتاج اكتشاف حقول جديدة وتطويرها باستمرار للتعويض عن معدل الانخفاض العالي في الحقول القديمة، وهذه العملية باهظة الثمن من ناحية، ومعقدة وغير مضمونة النتائج من ناحية أخرى، لأنها تفترض استمرار اكتشاف حقول مهمة. وفيما تؤمّن حقول الغاز المصرية في البحر المتوسط نحو 72 في المئة من مجمل إنتاج الغاز المصري، يعرَف في هذا المجال، أن الاكتشافات تجري أولاً في المياه الضحلة نسبياً، ثم تتجه إلى المياه الأعمق، حيث التكاليف أعلى وتتطلب تأمين حوافز اقتصادية وتعاقدية لحض الشركات على العمل هناك. وتعمل معظم شركات الغاز العالمية على تشجيع تشييد مشاريع تسييل الغاز من أجل التصدير، لتحقق أرباحاً أعلى، بدلاً من الاقتصار على تأمين الغاز للأسواق المحلية حيث تقدّم الحكومات أحياناً دعماً للأسعار يعني أرباحاً أقل للشركات. والوضع في مصر في هذا المجال لا يختلف عنه في كثير من دول العالم الأخرى. أما بالنسبة إلى تصدير الغاز المصري بالأنابيب، فانخفضت الصادرات إلى الأردن منذ 2010 عن المستوى المتعاقد عليه (250 مليون قدم مكعبة يومياً) إلى نحو 100 مليون قدم مكعبة يومياً حالياً، بينما توقفت كلياً الصادرات إلى إسرائيل بعد الثورة إثر سلسلة من الانفجارات استهدفت الخط في العريش، وقرار بإيقاف التصدير إلى إسرائيل. وتواجه مصر النقص في إنتاج الغاز من خلال استيراد الغاز المسيل، والتحدي هنا ليس في العثور على الإمدادات، فهي متوافرة بما فيه الكفاية في المنطقة (قطر والجزائر)، لكن التحدي في الكلفة، إذ يجب استيراد الغاز المسيل بالأسعار العالمية، في وقت يستمر الدعم الحكومي المصري لأسعار الغاز محلياً، وهذا يعني مضاعفة الكلفة. وستعني النتيجة المتوقعة لهذا التغير الكبير المحتمل في قطاع الغاز المصري مضاعفة الكلفة على الاقتصاد المصري، في وقت يعاني مشكلات جمة. وثمة مشكلة أخرى ستواجه مصر، في ظل الوضع الجديد، تتمثل في كيفية إقناع شركات البترول العالمية بالاستكشاف من المناطق البحرية العميقة حيث الكلفة باهظة ووعود الاكتشافات ضخمة، فمن دون اكتشافات جديدة سيستمر تراجع إنتاج الغاز المصري. * مستشار لدى نشرة «ميس» النفطية