بنات الذاكرة الحزينة يعود توماس كينيلي في روايته التاسعة والعشرين إلى الحرب. عنيت «ثرثرة من الغابة» في 1975 بصياغة وقف القتال في 1918. «كونفدراليون» في 1979 بمصاعب الجنود اليومية خلال مسيرتهم في الحرب الأهلية الأميركية. رواياته الحديثة تهجس بالتساؤلات الأخلاقية تحت ضغط القتال. الشغف الثوري في «قطار الشعب»، الانحدار المقرف من النزاهة إلى التواطؤ مع نظام مستبد في «رواية الطاغية»، استكشاف القيادة الروحية خلال الحرب في «مكتب البراءة»، والتعمّق في طبيعة الشجاعة المعنوية في «الأرملة وبطلها». «سفينة شندلر» حوّلت فيلماً بعنوان «لائحة شندلر» لستيفن سبيلبرغ، ومن مشاهدها الساطعة ثورة الصناعي الألماني على تطويبه منقذاً لعمّاله اليهود. في «ابنتا مارس» الصادرة في بريطانيا عن «سبتر» تعود نايومي من سيدني إلى قريتها الصغيرة على النهر في نيو ساوث ويلز. أصيبت والدتها بسرطان عنق الرحم، وعانت من أوجاع رهيبة. كانت ممرضة كشقيقتها سالي الأصغر منها، وارتكبت الاثنتان فعلاً خالط الخير شرّه. ليلة عودتها رأت كمية المورفين التي أتت سالي بها من المستشفى، وأدركت ما عجزت شقيقتها عن فعله. حقنت والدتها به، وأصيبت الاثنتان بذنب عميق وطويل. لم تتّفق يوماً مع سالي التي شعرت حتى قبل الدراسة الثانوية بأنها عرضة لمقارنة الأساتذة والتلميذات الحيرى بنايومي. أحسّت أساساً بأنها «أقل» من شقيقتها، لكن بعض المقارنات كان حقيقياً. أتقنت نايومي التعامل مع العالم الخارجي، لكنها اختارت الابتعاد عن الأسرة حتى وهي معها. مع بداية الحرب العالمية الأولى تطلب الحكومة الأسترالية متطوّعين طبّيين فتلبّيان. تركبان السفينة من سيدني إلى مصر حيث يدرّب جنود بلادهما أربعة أشهر، ثم تقصدان السفينة - المستشفى أرخميدس على الدردنيل، شمال تركيا، حيث نُقل جرحى معركة غاليبولي التي قتل فيها أكثر من ثمانية آلاف جندي أسترالي. تنتقد نايومي بصراحة استراتيجية الجنرالات الحربية والطبية، ولئن عملت، كشقيقتها، بجهد فائق لمساعدة الجرحى جسدياً ونفسياً، بقيت الاثنتان قلقتين لا ترضيهما أفضل النتائج، وافتقرتا إلى حسّ القناعة وفق مقاتل جريح. عانتا من شعور بالتقصير أمام الإصابات التي شاهدتاها من تعفّن الدم، صدمة الحرب، السفلس، قطع الأطراف، تشوّه الوجه وأثر غاز الخردل على الرئتين والجلد. مع ذلك فُتنتا بأهوال الحرب التي شغلتهما عن الشعور بالذنب، وأحسّتا بأنهما تحرّرتا لدى انتقال القتال إلى فرنسا، بحضارتها المألوفة، بعد القيود الاجتماعية في تركيا. تتغيّران، وتقول نايومي إن الحرب جعلتهما شقيقتين حقيقيتين: «اعتدنا الأحداث المرعبة إلى درجة ربما كان علينا العيش معاً لأن الآخرين لن يفهموا ما رأيناه». حين تزيل سالي ضمادة دامية عن معدة جريح ترى فجوة تخرج منها بطانة ملتوية، صفراء وسط الدم، مهترئة ومفرّغة كالدانتيل. يبوح الجنود للممرضّات بمخاوفهم ومشاغلهم، وتدرك هؤلاء أن الإصغاء يشكّل أكثر من نصف مهمّتهم. تنتشر موجة انتحار بين جرحى مشوّهين يخجلون من مواجهة أهلهم وشريكاتهم. يتذكّرون كيف وقف هؤلاء على رصيف الميناء يودّعونهم بحماس كما لو كان هناك قانون ينصّ على أنه كلما كان الوداع حيوياً كانت العودة أكيدة. رئيسة الممرّضات تُلهيهن بجمع فواتير الطعام خلال غارة، ويخفّف طبيب من رعب القتال بتنظيم نزهات وسط أزهار الخشخش الحمراء، رمز الضحايا، على الجبهة الغربية. يخصّص كينيلي أربعين صفحة من ستمئة لقصف حيوي للسفينة - المستشفى، لكن القتال المباشر يغيب عن الرواية. يُعنى في أدبه بحضور الأستراليين، الذين يعيشون في أسفل العالم، في قلب تاريخ أوروبا الحالك، ويقدّم معلومات دقيقة عن دور مواطنيه الحاسم في الفوز على الجبهة الغربية. عودة الابن الآخر يستفيد نديم إسلام من ازدواجية هويّته لكي يستبطن الثقافتين الشرقيةوالغربية. كان في الرابعة عشرة حين غادر باكستان إلى بريطانيا في 1980، وهجس بالتطرّف الديني في أعماله. روايته الرابعة «حديقة الأعمى» الصادرة عن دار فابر تتناول مدرسة أدارها في الماضي روهان الأرمل الستّيني، وباتت بعد مصادرتها مركزاً لاختيار الشبان الملائمين للتدرّب على الجهاد في معسكرات لها صلة بالاستخبارات. ينطلق ابنه جيو، الطبيب المتدرّب والمتزوج حديثاً، من حير إلى أفغانستان لمساعدة المدنيين فيها مدفوعاً بدعوة دينه إلى الرحمة. يرافقه أخوه بالحضانة ميكال، ميكانيكي السيارات الشاعر، الذي يكتم حبه لنهيد، عروس جيو، ويجهل أنها تبادله العاطفة سرّاً. يكره الشابان طالبان والأميركيين، ويوقعهما الغدر بين أيدي طالبان التي يفرض مقاتلوها عليهما الدفاع عن موقعهم ضد متمردين تدعمهم أميركا. يتبعهما الأب لإنقاذهما، لكن جيو الذي نشأ على قصص الشهادة يُقتل في معركة يعارض طرفيها. يؤسر ميكال الذي يتوسّل إلى المتمرّدين أن يستأصلوا الرصاص من جسده فلا يبالون. يُشاع أن الأميركيين استخدموا رصاصاً من الذهب الخالص، فيأتونه ليلاً بالمشارط والنصال. يقطع أمير الحرب إصبعه الذي يضغط به على الزنّاد ويحفظه تذكاراً. يبيعه إلى الأميركيين قائلاً إنه إرهابي، فيُستنطق ويُعذّب. تُفرك عينا والده بغبار الياقوت فيفقد النظر وبهجة تأمّل الحديقة التي زرع شجرها بنفسه. يتداخل خطان قصصيان بين حير وأفغانستان. تغيّر الرحلة حياة ميكال وتحسمها، لكنه يبقى عاشقاً يتساءل ما إذا كان سينجو ويعود قبل أن يُفرض الزواج ثانية على نهيد. روهان الذي بنى إيمانه على الورع لا السياسة ليس ضحيّة. حين رفضت زوجته المريضة العودة إلى الدين حجب عنها الدواء، وأحرق رسومها ولوحاتها، آملاً في أن يؤدّي الضغط إلى اقتناعها وإنقاذ روحها. هل يدرك بعد خسارة ولده ونظره أنه ضحية نفسه، وأن حياته باتت تكفيراً عن ارتكابات ظنّها قمة الإيمان؟ وهل يسأل عما يفصل بين ما اعتقده تقوى والخطاب الإسلامي المتطرّف الذي بغضه؟ أبعد من الغضب كتب ستيفن كينغ لصحيفة «ذا غارديان» البريطانية عن العنف في مدارس بلاده. كان في المرحلة الثانوية حين أنجز روايته الأولى التي نشرت فيما بعد بعنوان «غضب». يعاني بطلها المضطرب تشارلي ديكر من أب متسلّط ومراهقة معذّبة وانبهار بتد جونز، أكثر الفتيان شعبية في المدرسة. يتأبط يوماً غضبه وبندقيته ويقصد المدرسة ليقتل معلّم الجبر ويحتجز زملاءه رهائن. بعد عشرة أعوام كان كينغ الكاتب الأفضل مبيعاً لنصف دزينة من الروايات. أعاد كتابة مخطوطته ونشرها باسم ريتشارد باكمان فباعت آلاف النسخ وظنّ أن أمرها انتهى. في شباط (فبراير) 1996 دخل فتى يدعى باري لوكايتس صف الجبر في مدرسته في واشنطن وهو يحمل مسدّساً وبندقية صيد. قتل معلّمته ليونا كيرز وتلميذين، ولوّح بالمسدّس وصاح: «هذا أفضل من الجبر، أليس كذلك؟» استعار العبارة من تشارلي ديكر في «غضب» لكن زهوه بإنجازه لم يطل. هجم عليه معلّم الرياضة وأخضعه. في العام التالي قتل مايكل كارنيل الذي كان في الرابعة عشرة ثلاثة أشخاص في هيث هاي سكول في كنتاكي بمسدّس نصف أوتوماتيكي، ووُجدت في خزانته نسخة من «غضب». طلب كينغ من الناشر سحب النسخ من السوق. الكاتب الديمقراطي اليوم نشأ جمهورياً وأمضى حياته وهو يضع نصف قدمه على الأقل في ذلك المعسكر. يملك ثلاث مسدّسات وضميراً مرتاحاً ويرفض إبطال المادة الثانية من الدستور التي تنصّ على الحق في حمل السلاح. لن يحلّ الإلغاء أو التعديل مشكلة استعمال السلاح في أعمال العنف في أميركا، فمعظمه يُشترى ويحمل بطريقة لا شرعية. في المقابل لا يُقنعه قول وين لابيير، نائب رئيس جمعية السلاح الوطنية، إن ثقافة العنف في أميركا تلعب دوراً كبيراً في القتل الجماعي في المدارس والمجمّعات التجارية. بين دزينة الأفلام الأكثر شعبية في أميركا في 2012 وحده «سكاي فول» اعتمد عنف المسدّس. يسيطر إطلاق النار في ألعاب الفيديو، لكن الأخوين سوبر ماريو وبوكيمون يتمتعون بإقبال دائم. وكانت اللعبة الأكثر مبيعاً «فقط ارقص 4» العذبة. التشديد على حب الأميركيين العنف واستحمامهم به يومياً كذبة تخدم مستخدميها. يقترح الكاتب حصر الطلقات في المسدّسات بعشر فقط، ويتمنى أن يساعد أعضاء «جمعية السلاح الوطنية» في مواقع القتل الجماعي لكي يجمعوا القطع المبعثرة من أدمغة الضحايا وأمعائهم. للسلاح نصف الأوتوماتيكي هدفان: استخدامه في مجال الرماية والشعور بالإثارة الجنسية، وقتل البشر. سحب كينغ «غضب» من السوق لأنه رأى أنه قد يتسبّب بالأذى، وعلى مؤيدي حمل السلاح القيام بالتفافة مماثلة.