تعيش تونس منذ اغتيال الزعيم المعارض شكري بلعيد اضطرابات أمنية وسياسية تؤجّج الاحتقان الاجتماعي والتشنّج السياسي وتؤثّر سلباً في الاقتصاد، ما يزيد من احتمال انزلاق البلاد في مسلسل عنفٍ يعوق عملية استعادة الثقة لدى المستثمرين سواء المحليين منهم أم الأجانب. فالاغتيال أدّى إلى تراجع مؤشر بورصة تونس للأوراق المالية بأكثر من 3 في المئة، ليتدنّى إلى مستوى أقل مما كان عليه في أواخر 2012. كما أثَّر سلباً في توقّعات تدفّق السياح الأجانب، بعد إلغاء وكالات السفر جزءاً من حجوزها لموسمَي الربيع والصيف المقبلَين في المنتجعات التونسية الرئيسة، بسبب غموض الرؤية وازدياد المخاوف الأمنية لدى السياح. ويبدو اقتراح رئيس الحكومة الحالية حمادي الجبالي، والذي يهدف إلى تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة، حلاً ممكناً للخروج من المأزق السياسي وتجاوز الغموض الاقتصادي الذي يلقي بظلاله على تونس، في انتظار الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، الذي لا يزال في طور الإعداد، وإجراء أول انتخابات في مرحلة ما بعد «ثورة الياسمين». فالركض وراء اكتساب الشعبية في صفوف مختلف الفئات الاجتماعية، أدّى بالحكومة الانتقالية التي يتزعّمها حزب النهضة الإسلامي إلى التوسّع المفرط في الإنفاق الجاري لتمويل أجور 25 ألفاً من الموظفين الجدد، وتغطية الموازنة الإضافية المخصصة لدعم الوقود وبعض السلع الغذائية الأساسية. ونتجت من المقاربة التوسعية للحكومة خلافات بين مختلف الأطراف، أدّت إلى إقالة محافظ المصرف المركزي مصطفى النابلي في تموز (يوليو) الماضي، ثم إلى استقالة وزير المال حسين الديماسي بعد أسابيع قليلة. ولم يتمكّن الاقتصاد التونسي خلال 2012 من استعادة زخمه، وسجَّل نمواً في حدود 3.5 في المئة، وهذه نسبة تعتبَر ضعيفة، خصوصاً أنها أتت بعد نمو سالب خلال 2011، كما أنها لا ترقى إلى مستويات نمو الناتج المحلي الإجمالي الذي عرفته تونس في فترة ما قبل الثورة، وهي غير كافية لاستحداث ما يكفي من فرص العمل. ولم يُسجَّل أي انخفاض ملحوظ في معدلات البطالة التي استقرت في حدود 17 في المئة، فيما لم تتحسّن معدلات التشغيل في صفوف الشباب من ذوي الشهادات. كذلك تفاقم عجز الموازنة الحكومية، ويرجَّح أن يستقر في حدود سبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في مقابل 3.5 في المئة عام 2011. وسجّل عجز حساب المبادلات الجارية تدهوراً إضافياً ليستقر في حدود ثمانية في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في ظل الارتفاع المستمر لأسعار النفط والسلع الاستهلاكية، وتقلُّص الطلب الخارجي للبلدان الأوروبية الشريكة التي يعيش جلّها في ظل أزمة اقتصادية ومالية خانقة. ويواجه التونسيون ارتفاعاً مهماً في الأسعار، إذ يشير بيان المصرف المركزي التونسي إلى أن نسبة التضخم بلغت ستة في المئة خلال 2012 في مقابل 3.5 في المئة في 2011. وعرفت السلع الغذائية، التي تمتص ثلث موازنة الأسر، زيادة بنسبة 8.4 في المئة، ما ينهك القدرة الشرائية لفئات عريضة من السكان ويزيد من سخطهم على أداء الحكومة الحالية. وقد يلجأ المصرف المركزي إلى رفع السعر المرجعي للفائدة للسيطرة على التضخم المالي الذي يعزى إلى تنامي الإنفاق الحكومي، إضافة إلى تفشي الممارسات الاحتكارية في بعض القطاعات، فضلاً عن ازدهار التهريب في مناطق الحدود مع ليبيا والجزائر. تسبّب تركيز الحكومة الحالية على الإنفاق الجاري في اختلال التوازنات الاقتصادية الداخلية والخارجية وتفاقم الضغوط التضخمية، من دون إحداث أي أثر ملموس في النمو الاقتصادي ومعدلات البطالة. وينبغي مستقبلاً تبنّي مقاربة أكثر توازناً بين الإنفاق الجاري والإنفاق الرأسمالي، وبين التمويل عبر اللجوء إلى الاقتراض، والعمل على تعبئة موارد ضريبية جديدة من خلال توسيع القاعدة الضريبية ومحاربة التملّص الضريبي، وتحقيق العدالة الضريبية بين مختلف الفئات المهنية والقطاعات الاقتصادية. يُذكر أن مقتضيات قانون المالية لعام 2013 غلب عليها التناول الجزئي وغياب التأسيس لأي إصلاحات عميقة للنظام الضريبي على رغم تشوهاته المتعددة. أما إجراءات التقشف التي تعتزم الحكومة تطبيقها، في إطار مفاوضاتها للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي لضبط مستوى عجز الموازنة من طريق تقليص دعم الاستهلاك، فيجب أن تصاحبها إجراءات موازية ترمي إلى توسيع الحماية الاجتماعية، وتقديم الدعم المستهدف للفئات الضعيفة حتى لا تتحمل العبء الأكبر من عملية إصلاح المالية العامة. تدعو الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحقيق الأمن والاستقرار في تونس، كشرط أساسي لعودة الثقة لدى المستثمرين والسياح والمواطنين في شكل عام. وعلى رغم ضخامة التحديات التي تواجهها تونس في الميدان الاقتصادي على المدى المنظور، فالبلاد قادرة بفضل طاقاتها البشرية ويقظة مجتمعها المدني على تجاوزها. ويشكّل التوافق السياسي بين مختلف الأحزاب والمكونات الرئيسة في المجتمع المدني، في هذا المنعطف الحرج من تاريخ البلاد، الإشارات القوية الضرورية لإعادة الثقة بالاقتصاد التونسي ومن ثم السير قدماً نحو النمو الاقتصادي والسلم الاجتماعي. * باحث في «مركز كارنيغي للشرق الأوسط» - بيروت