صدر في الأسبوع الماضي قرار خادم الحرمين الشريفين بتمديد برنامج الابتعاث لمدة خمسة أعوام أخرى ليدخل هذا البرنامج الطموح عقداً جديداً، وبذلك تتكون لدينا بعد عشر أعوام من عمر البرنامج الحالي وبعد تجارب سابقة في الابتعاث، تجربة ثرية بكل أبعادها العلمية والثقافية والاجتماعية والإدارية. ولهذا فإن الدعوة لإجراء عملية تقويم شاملة لبرنامج الابتعاث الحالي بعد هذه الأعوام العشر يعتبر مطلباً معقولاً وتأتي في الوقت المناسب، وبخاصة أن عملية التقويم المقترحة لن تؤدي إلى مراجعة أصل القرار، فواضح أن القيادة مصرّة على استمرار البرنامج، وكذلك الأصوات المؤثرة في المجتمع قد توافقت على أهمية استمراره. وبالتالي يحسن بنا أن ندلف إلى مناطق أخرى في التفكير، وفي تحليل إيجابيات وسلبيات البرنامج، وكيف يمكن لنا أن نعزز من نجاح هذه التجربة الغنية وفي توجيهها لخدمة أهداف التنمية لأعوام طويلة مقبلة. لقد بدا لكثير من المتابعين أن بداية تطبيق البرنامج كانت مرتبكة وعشوائية، بسبب سرعة اتخاذ القرار والرغبة في تطبيقه كيفما شاء، لأن هناك أهدافاً سياسية تحتمي خلف الأهداف التعليمية والتنموية، ولهذا كان الجميع يشعر بأن إقبال الشباب السعودي واندفاعهم للدراسة في الخارج يمثل نصراً معنوياً بعد حال الإحباط التي شعر بها الساسة وعقلاء المجتمع نتيجة انخراط عدد من شباب الوطن في الجماعات الإرهابية المتطرفة في داخل البلاد وخارجها. ومن أجل ذلك كان هناك كثير من التغاضي عن الإرباك والأخطاء الإدارية في اختيار المرشحين للبرنامج، وفي متابعتهم وفي تقديم الخدمات لهم، وأكثر من ذلك استيعابهم بعد عودتهم من هذه التجربة الثرية إلى المملكة وانخراطهم في سوق العمل. ولكن الوقت قد حان بعد أن تجاوزنا تلك المرحلة لإعادة التخطيط لهذا البرنامج، بحيث نعيد الاعتبار للاهتمام بالكيف على حساب الكم الذي ساد في الأعوام الماضية. والاهتمام بالكيف لا يعني الاهتمام بنوعية التخصصات ومستوى الجامعات فحسب، بل ينبغي النظر في مستوى الملتحقين بالبرنامج، وفي استعدادهم العلمي والسلوكي للانخراط في هكذا تجربة. كما ينبغي إعادة النظر في طريقة تنفيذ البرنامج، وفي طريقة الإشراف والمتابعة، وفي مستوى الخدمات التي تقدم للمبتعثين. ولهذا فإنني أدعو وزارة التعليم العالي إلى التفكير خارج الصندوق إن أرادت أن تضع نفسها في طليعة مؤسسات الدولة التي تخطط للمستقبل وتهتم بأمر الأجيال القادمة. ولو عقدت الوزارة سلسلة من حلقات النقاش مع المهتمين وبعض ممن خاضوا تجربة الابتعاث قديماً وحديثاً مع مشاركة المسؤولين في الملحقيات الثقافية، لاستطاعت بلورة مجموعة من الأفكار الجديدة التي قد تعينها في وضع برامج وخطط تنفيذية مختلفة قبل بدء تنفيذ المرحلة الثالثة من برنامج الابتعاث. من الأفكار التي قد تحظى بالنقاش تطوير معايير اختيار المبتعثين، بحيث لا يقتصر الترشيح للبرنامج على المعايير الأكاديمية، وإنما يمكن وضع اختبارات متقدمة للمرشحين في المهارات المتقدمة تغطي جوانب القدرة على التفكير النقدي، والقدرة على التميز العلمي، والمقدرة على تنمية السلوك الحضاري. وبعد عملية الاختيار الأولى يتم تصميم برامج تدريبية متنوعة في مهارات التعلم، وفي تطوير مهارات اللغة التي سيدرس بها الطالب بعد الابتعاث، إضافة إلى تقديم إرشادات قانونية وحضارية عن قيم وثقافات الشعوب التي سينتقل إليها المبتعثون. ومن الأفكار الأخرى أن يتم ربط برنامج الابتعاث من حيث التخصصات العلمية بحاجات شركات ومؤسسات القطاع الخاص وبخاصة الكبرى منها قبل الابتعاث وليس بعده. فلو طرحت وزارة التعليم العالي على الشركات المؤثرة في الاقتصاد الوطني عدد المنح الدراسية التي يمكن لها تغطيتها في البرنامج، فتقوم الشركات بتحديد العدد الذي يمكنها أن تقبله بناء على خطط الموارد البشرية لديها، فيتم توظيف المبتعث قبل ابتعاثه، وتتولى وزارة التعليم العالي الإشراف على الجانب التعليمي والعلمي، وتتابع جهة التوظيف الجانب المهني والتطبيقي، فيكون هناك ربط بين ما يدرسه الطالب بما تمليه عليه متطلبات الوظيفة مستقبلاً. إن هذه الفكرة قد تقضي على هاجس توظيف المبتعثين بعد عودتهم من الخارج. ومن الأفكار في برنامج الابتعاث عدم اقتصار البرنامج على الدراسات العليا الأكاديمية، وإنما يمكن توجيه بعض الأموال نحو التدريب المهني والتطبيقي في المجالات النادرة، فكثير من الأطباء والمهندسين والإداريين والتربويين يحتاجون بعد حصولهم على الشهادات العليا إلى مزيد من التطوير المهني Professional Development، ولكنهم لا يجدون من يدعمهم في هذه الحاجة، إذ تتلكأ كثير من المؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص في توفير برامج التطوير المهني المهمة لتحديث المعلومات والاطلاع على المستجدات. وكذلك يمكن توجيه برنامج الابتعاث نحو دعم البحث العلمي في الجامعات السعودية، من خلال إيفاد أعضاء هيئة التدريس لتنفيذ برامج بحث مشتركة في الجامعات المتقدمة وفي مراكز البحث العلمي الدولية، من خلال معايير علمية صارمة. ومن الأفكار التي ينبغي النظر فيها إحياء مشروع الوقف لبرنامج الابتعاث، الذي طرح قبل تطبيق برنامج خادم الحرمين الشريفين الحالي، ولكن طواه الإهمال نتيجة توافر الأموال، والرغبة في تنفيذ البرنامج في أسرع وقت ممكن. إن الأجيال القادمة لها حق أيضاً في توفير فرص التعليم خارج المملكة، فينبغي أن يستمر البرنامج بوتيرة واحدة ومستقرة، بدلاً من الصعود المفاجئ أو الهبوط المفاجئ، فالبرنامج حيوي مهما حصل من تطور في جامعاتنا وكلياتنا المحلية. إن برنامج الابتعاث، الذي يعتبر الأبرز في منظومة نشاطات وزارة التعليم العالي، يحتاج إلى وقفة تأمل ودراسة، فالبرنامج قد حقق نتائج مبهرة، ولكنَّ هناك كثيراً من السلبيات التي حصلت نتيجة الإسراع في التنفيذ، ونتيجة الضغط الكبير بعد إقبال الشباب للاستفادة من هذه الفرصة التي قد لا تتكرر في المستقبل، وأحسب أن الوقت قد حان لهذه الوقفة التاريخية المهمة. * أكاديمي وكاتب سعودي [email protected]