رغم الزخم الإعلامي الذي يصاحب الابتعاث والمبتعثين , ورغم الجهود التي تبذل في برامج الابتعاث , إلا أن قضية مبتعثي سنغافورة تعكس جوانب كثيرة لجهد إداري متواضع جدا لا يلبي احتياجات المبتعثين وطموحات المواطنين على حد سواء , والذين يعلقون أمالا تنموية ومستقبل معرفي واعد على برامج الابتعاث و المبتعثين . وبصفتي أحد المبتعثين لدراسة الماجستير في التقنية الحيوية في جمهورية سنغافورة في النسخة الرابعة من برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي , و من خلال واقع معايشتي لهذه التجربة , أعرض عددا من المشكلات التي واجهت الطلاب المبتعثون لسنغافورة والتي وقفت أمام تحقيق الهدف التنموي الذي أرسلوا لأجله . أولا : محدودية عدد الجامعات السنغافورية الحكومية المتميزة والمعترف بها من قبل وزارة التعليم العالي (ثلاث جامعات , جامعتان فقط ضمن الجامعات المدرجة في قائمة أفضل 500 جامعة , لعام 2009) ,هذه الجامعات محط اهتمام وتنافس , للدراسة فيها من قبل عدد كبير جدا من الطلاب من مختلف دول العالم , الأمر الذي جعل هذه الجامعات ترفع من مستوى شروط ومتطلبات الحصول على القبول الدراسي, والذي شكل عائقا أمام الطلاب السعوديين بسبب الفروق المتباينة بين الجامعات السعودية والجامعات السنغافورية سواء في المنهج التعليمي أو في طرائق التدريس و مهارات البحث العلمي , والذين لم يعطوا تهيئة مناسبة ,قبيل إرسالهم لتلك الجامعات , مما شكل انعكاسات نفسية على الطلاب المبتعثين , ترتب على ذلك عزوف الكثير من المبتعثين عن إكمال دراستهم , أو تغيير الوجهة الدراسية , مسببا تشتتا دراسيا وتضييع الكثير من الجهد والوقت والمال, وخلق نوعا من عدم الاستقرار النفسي . وحتى الذين أصروا على إكمال دراستهم وتغيير دولة الابتعاث يواجهون تعاملا إداريا بطيئا , بعدد طويل من القرارات والإجراءات , بشكل يجبر الطالب علي تعليق بعثته , وإيقاف الصرف المالي عليه , مما يشكل ظروفا اجتماعية ونفسية ومالية حرجة على الطالب المبتعث , سيما وأن كثير من المبتعثين للماجستير والدكتوراه متزوجون ويعولون أبناء. هذه المعوقات لم تكن وليد اللحظة , بل كان لدى الوزارة معرفة بها في بدايات مبكرة قبل إرسال الطلاب للدراسة فيها , والذين أصبحوا ضحية عدم المقدرة في تحصيل قبول دراسي من الجامعات السنغافورية من طرف , وتعنت وزارة التعليم العالي عن إيجاد حل جذري من طرف أخر. ثانيا : : بالرغم من إن إختيار الوجهة الدراسية , أو دولة الابتعاث , مهمة الطالب نفسه , وعلى الطالب أن يحرص أن تكون بلد الدراسة ملائمة لظروفه , وأن يتحمل تبعات إختياره شريطة أن تتوفر مصادر موثوقة تعطي معلومات قيمة ومحدثة عن الوجهة التي يقصدها الطالب , إلا أن ملتقى المبتعثين الذي نفذ في المرحلة الرابعة للطلاب المبتعثين لأستراليا ونيوزلندا , وجميع دول أسيا , لم يراعا فيه الفروق المتباينة بين تلك الدول , ولم يحصل المبتعثين إلا كما هائلا من التوجيهات والنصائح الأخلاقية لأن يكونوا خير سفراء للوطن , في غياب واضح لمسئولي الملحقات الثقافية - باستثناء ملحقية استراليا- والذي كان حضورهم أمرا ضروريا للإجابة على أسئلة الطلاب المبتعثين . أيضا فإن الموقع الالكتروني للملحقية الثقافية في سنغافورة , موقع ضعيف جدا ولا يعطي الطالب صورة شاملة من الناحية المعيشية والدراسية للبلد , كما أن موقع السفارة في سنغافورة ما زال رهن الانشاء , ونتيجة ذلك , أضحى الطلاب المبتعثون ضحية اجتهادات فردية من موظفي الوزارة و الملحقية الثقافية , وبعض المنتديات الالكترونية لعدم توفر مصادر رسمية يستطيع من خلالها الطالب المبتعث إعادة تقييمه في اختيار الوجهة الدراسية في الوقت المناسب . ثالثا : بالرغم من أن سنغافورة من أصغر دول العالم مساحة (طولها 42 كم وأقصى عرض لها23 كم ) , إلا أن اقتصادها يعتبر من أقوى اقتصاديات دول أسيا , يبلغ دخل الفرد من الناتج الوطني الإجمالي حوالي 29.900 دولار أمريكي , ويعد هذا الدخل من أعلى المعدلات في أسيا , ورقم 22 على مستوى العالم , بينما مكافأة الطلاب المبتعثين مصنفة ضمن فئة (ب) مثلها مثل أي مكافئة مبتعث في دولة عربية.(1800 دولار سنغافوري للمبتعث الفرد , 900 للمرافق , 300 للإبن المرافق ) والتي يذهب نصفها لإيجار السكن إذا اعتبرنا أن أقل شقة تكلفة , تكلف( 1500 دولار ) بغض النظر عن فواتير الكهرباء والماء , وتبقى المكافأة أيضا رهن ارتفاع او انخفاض صرف العملة , فما يستلمه الطالب المبتعث هذا الشهر , قد لا يتحصل عليه الشهر القادم , هذه المكافأة لا تكفي الحاجات الأساسية للطالب المبتعث ,عوضا عن الحاجات الأخرى كخدمة الانترنت مثلا , أو الاشتراك في الدورات التطويرية سواء في مهارات تطوير الذات , أوفي دورات ذات صلة بالاختصاص, أو الاشتراك في النوادي العلمية, والتي لا تتكفل الوزارة بدفع تكاليفها, هذا الوضع المالي الصعب تؤكدها تقارير رسمية صادرة من الملحقية الثقافية والسفارة السعودية. رابعا : المساعدة المالية المخصصة من الوزارة لتدريس أبناء المبتعث لا تكفي لرسوم فصل دراسي واحد في المدارس العالمية المعتمدة لدى وزارة التربية والتعليم السعودية ,ولا توجد مدارس سعودية تحتضن أبناء المبتعثين , وترفض المدارس الحكومية السنغافورية استقبال أبناء غير الدبلوماسيين , ورغم وجود مدارس اسلامية جيدة تفوق بجودتها وكفاءتها الكثير من المدارس في قلب كبريات مدن المملكة , إلا أن الوزارة لا تعترف بها , ولا تتكفل وزارة التعليم العالي بدفع تكاليفها نتيجة عدم اعتمادها . ويقف الطالب المبتعث أمام معادلة صعبة , الذهاب للجامعة لإكمال دراساته العليا , وإبقاء أبنائه حبيسي منزله , وما تبثه تلك القنوات الأجنبية من مفاهيم تتعارض كثير من برامجها مع قيمنا واعتقاداتنا في مجتمع متعدد الثقافات والأديان . وما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة في مرحلة مبكرة من حياة الطفل , وهي مرحلة تشكيل الاتجاهات والقيم , يعرف تبعاتها المهتمون بالمجال الفكري , أو أن يعلق الطالب بعثته , ويعود للوطن ,ليبدأ سلسلة طويلة من الإجراءات العقيمة التي تنتهجها إدارة البعثات دون دراية عن حجم مشكلة الطالب ومعاناته , أو أن يلغي الطالب بعثته الدراسية , وهذه ما حصل لعدد من المبتعثين. رغم كل ذلك , ورغم مطالبات المبتعثين لدى الملحقية الثقافية والسفارة السعودية بسنغافورة , إلا أن ذلك لم يأتي بأي حل عملي لهذه المشكلة , ورغم محاولات بعض الطلاب لتدريس أبنائهم في مراكز رعاية أطفال تتناسب وقدراتهم المالية , إلا أن فارق السن , وضعف المخرجات التعليمية لتلك المراكز أن تلبي حاجة أطفال المبتعثين لإعداد لغوي جيد , يعزز من القدرة على التخاطب , أتت بنتائج عكسية تماما من خلال عزوف أبناء المبتعثين وضعف دافعيتهم للتعلم والشعور بالاحباط والفشل . خامسا : يتحدث المجتمع السنغافوري بعدد مختلف من اللغات ( الملاوية 14.1 % , الصينية الماندرين 35% الانجليزية 23% التاميل 3.2% ) , ورغم أن نسبة جيدة من المجتمع يتحدث الانجليزية ( بلكنة صينية ) إلا أن ذلك فقط في الدوائر الرسمية والجامعات , ويجد الطلاب المبتعثون صعوبة في الانخراط في المجتمع الجديد , خاصة أن السنغافوريين , والذي يمثل الصينيون نسبة كبيرة منهم , غير اجتماعيون , أو أن ليس لديهم نزعة اجتماعية , كما هو المعتاد مع المجتمع البريطاني أو الأمريكي على سبيل المثال , كما أن الطالب بشكل يومي لا يسمع سوى اللغة الصينية في الأماكن العامة وفي وسائل التنقل بشكل يومي , مما أثر على مستوى التطور اللغوي لديه , ومع ذلك فالفترة المحددة لدراسة اللغة الانجليزية في قرار الابتعاث هي سنة ونصف كحد أقصى , وهي كذلك نفس المدة التي يقضيها المبتعث في بريطانيا وأمريكا , واستراليا , حيث اللغة الانجليزية هي اللغة الأم , مما يعطي إحساسا أن المعايير التي على ضوئها حددت الوزارة فترة اللغة في سنغافورة بسنة , وستة أشهر( إن قدم الطالب مبررات مقنعة للحاجة اليها ) , معايير افتراضية بنيت في عزلة تامة في أروقة ومكاتب الوزارة بعيدة تماما عن الواقع . سادسا : بالرغم من حرص الوزارة وسعيها نحو رفع كفاءة كادرها الوظيفي ليحقق أهداف برامج الابتعاث , ولأن التعامل مع المبتعثين يحتاج الى مهنية عالية , وقدرة في التخاطب بلغة بلد الدراسة , وخبرة جيدة بالشؤون الأكاديمية , وما قد يعترض برامج الابتعاث من معوقات , إلا أنه ومن المفارقة أن يكون المشرف الدراسي في الملحقية غير قادر على التخاطب باللغة الانجليزية ( لغة الدراسة الرسمية في الجامعات) , سوى بعض المفردات الأساسية , و لذلك يمضي المشرف معظم دوامه الرسمي في قاعات الدراسة في أحد معاهد تعليم اللغات, ليحصل على دورات لغوية تضاف في سجله الوظيفي , وهذا ما حدث فعلا في الملحقية الثقافية بسنغافورة بشكل سابق , و الذي يعطي انطباعا أيضا أن هناك محسوبيات بتوظيف كوادر غير مؤهلة على حساب الطلاب المبتعثين . إن عمل المشرف الدراسي في الملحقية الثقافية يفترض أن يكون عمل إشرافي متكامل من النواحي التعليمية والصحية والاجتماعية والنفسية والثقافية وغيرها من النواحي التي تؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على مستوى الطالب الدراسي وتحصيله العلمي , وأن تكون العلاقة بين الطالب والمشرف مبنية على الود والاحترام , والثقة المتبادلة والتعاون الكامل. لكنه ومن خلال تجربتي الشخصية , وبرغم ما أحمله من رغبة جادة في التحصيل العلمي , وما حظيت به من سمعة جيدة بين أساتذتي وزملائي , ورغم التطور اللغوي الذي حققته في فترة مبكرة رغم عدد كبير من الصعوبات, إلا أن تعامل القسم الأكاديمي في الملحقية معي وزملائي أشبه ما يكون بتعامل إدارة مدرسة متوسطة مع طلابها , فكثير ما تصلني رسائل إنذار, بسبب فقط أنني حصلت على درجات متدنية في مستوى واحد من مستويات اللغة , بسبب مشاكل اجتماعية ومالية بالدرجة الأولى , دون بذل أدنى جهد من قبل الملحقية في معرفة أسباب ذلك الإخفاق بشكل مهني يتجاوز ذلك العمل الروتيني بإرسال رسائل أو نماذج جاهزة عبر البريد الالكتروني . سابعا : إن أحد أهداف الدراسة في الخارج , إن يتفاعل الطالب المبتعث في الخارج مع الثقافة الجديدة بشكل ايجابي , وبناء الجسور مع الثقافات المختلفة , والتعريف بالوطن وبالرسالة الحضارية للإسلام , واكتساب العديد من العادات الايجابية التي تتميز بها تلك المجتمعات , كالانضباط والتفاني في العمل وتقدير العمل التعاوني , إلا أن الجهود التي تبذلها الملحقية الثقافية في سنغافورة , ضعيفة جدا , والبرامج الاجتماعية المنفذة قليلة , ويتكلف بها ماليا الطلاب المبتعثون , وتمثيل الملحقية الثقافية في أكثرها هو تمثيل ضيف شرف فقط , كما أن البرامج التي تقيمها الملحقية برامج روتينية رتيبة , ولا تلبي حاجات الطالب كمبتعث , تلك الفعاليات تقتصر على برامج اليوم الوطني , وبرامج المعايدة , واستقبال الطلاب المبتعثين الجدد . ثامنا : في الوقت الذي تطالعنا الصحف اليومية , بزيارة مسئولين من الوزارة لعدد من دول الابتعاث كأمريكا واستراليا وبريطانيا , إلا أنه ولفترة دراستي في سنغافورة طيلة سنة ونصف , لم يحظى الطلاب المبتعثون في سنغافورة بزيارة أي مسئول على المستوى الوزاري , أو حتى من إدارة البعثات رغم ما يعيشه الطلاب المبتعثون من مصاعب مختلفة , يتعسر فيها تحقيق أهداف الابتعاث , رغم مطالب المبتعثين المستمرة , والتي أجزم تماما أن للوزارة علم بها , فقد اطلعت بصفة شخصية على عدد من الخطابات المرسلة من السفارة السعودية , بتفاصيل دقيقة عن الحالة التي يعيشها الطلاب المبتعثين في سنغافورة. هذا المقال نتاج تجربة مريرة مع وزارة التعليم العالي , والملحقية الثقافية , التي مازالت تصر على أهمية التزامي بإكمال دراستي في سنغافورة , رغم استحالة ذلك من ناحية عملية , ورغم حصولي على قبول دراسي من جامعة معترف وموصى بها , وغير موقوفة الدراسة فيها , وعضو مجموعة الثماني ضمن الجامعات المتميزة في استراليا , وبنفس التخصص , وبنفس الفترة الدراسية المقررة في قرار الابتعاث , وفي بيئة دراسية أكثر مناسبة , وطيلة مراسلات مع الوزارة امتدت لأكثر من أربعة أشهر دون فائدة , استهلكت فيها جهدا بدنيا ونفسيا وماليا , فمكاتب الوزارة المعنية باستقبال معاملات الطالب يبدوا أنها لا تجيد استقبال المعاملات عبر البريد الالكتروني , ولا يروق لها أن تستقبله عبر الفاكس , أو ترد على استفسارات الطلاب على الهاتف , وعلى الطالب الذي يريد متابعة معاملته إرسالها عبر البريد الممتاز وتوظيف أحد أقاربه المقيمين في الرياض لمتابعتها , أو باختصار حزم حقائب السفر , والمكوث أمام مكاتب المسئولين , وعرض المعاملة ومتابعتها بصفة شخصية وبشكل يومي, في صورة واضحة تعكس بيروقراطية إدارية وتعامل إداري غير مهني لا يتماشى مع ما يولونه قادة هذه البلاد من اهتمام بكل ما من شأنه تنمية الوطن والمواطن. كتبه : طالب الدراسات العليا بسنغافورة محمد بن سلمان المرعي