حربان عالميتان مهدتا للولايات المتحدة الطريق إلى دور أنيط بها لقيادة النظام الاقتصادي العالمي وقيادة النظام الدولي. وحربان أميركيتان مهدتا للولايات المتحدة الطريق للتخلي عن هذا الدور وطرحتا ضرورة البحث عن «بطل» يقوم بهذا الدور. قبل تسعين عاماً، أي ما يقارب القرن، وبينما العالم ينتظر إعلان الانتصار على كل من ألمانيا واليابان، اجتمع في مدينة كيبيك بكندا في أيلول (سبتمبر) 1944 الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل للتشاور حول «عالم ما بعد الحرب». لم يكن هناك أدنى شك لدى الطرفين أن عالم ما بعد هذه الحرب تحديداً لن يكون مطابقاً أو حتى مشابهاً لعالم ما قبلها. خرج الأميركيون من الحرب العالمية الثانية واثقين من استحالة أن تستمر الإمبراطورية البريطانية في ممارسة دورها في قيادة العالم اقتصادياً وسياسياً. كانت المؤشرات واضحة وعديدة على أن الحرب جففت منابع بريطانيا التي زودتها على امتداد قرنين على الأقل بأدوات القوة اللازمة لقيادة النظام الدولي. يكفي الاجتماع المنعقد في مدينة كيبيك مؤشراً له دلالته الكبيرة، إذ تصدرت جدول أعماله، إلى جانب النظر في مستقبل العالم، قضية استمرار المعونات الاقتصادية الأميركية التي دأبت واشنطن على مد المملكة المتحدة بها خلال الحرب وقبل نشوبها مباشرة. كان في تصور الساسة في واشنطن أن الإمبراطورية البريطانية لم تعد مؤهلة لقيادة نظام اقتصادي في الوقت الذي تحتفظ الولاياتالمتحدة بثلثي ذهب العالم. لذلك قرروا نقل مركز قيادة الاقتصاد العالمي من لندن إلى واشنطن وسط شكوك بريطانية عدة، وبخاصة حين دعت أميركا إلى اجتماع دولي يعقد في بريتين ودوز بولاية نيو هامشاير وحضره ممثلون عن 44 دولة وافقوا على المشروع الذي خضع لمفاوضات شاقة بين هاري ديكستر عن الولاياتالمتحدة واللورد كينز عن بريطانيا. وتسجل الشهادات أن الخارجية البريطانية مارست ضغوطاً شديدة على اللورد كينز ليقدم تنازلات للولايات المتحدة ويعتدل في موقفه ويتوقف عن توجيه التحذيرات إلى الحكومة البريطانية والرأي العام بأن «لا تدعوا أميركا تستغل انتصارها في الحرب لتنتزع عيون الإمبراطورية البريطانية من مآقيها». وفي اتهام مستتر للخارجية البريطانية رفض كينز الاعتراف بأن بريطانيا لم يعد لديها أوراق لتلعب بها في ساحة الصراعات الدولية، تماماً مثل ما نسمعه الآن من المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة الرافضين نية القيادة السياسية الراهنة التخلص من بعض التزامات أميركا الخارجية. اللافت للاهتمام في هذه المفاوضات الأميركية البريطانية التي سبقت اتفاقية بريتين ودوز أنه لم يمض على توقيعها أربع سنوات إلا وكان المفاوض الأميركي ديكستر قد استدعي للمثول أمام الكونغرس متهماً بالخيانة الوطنية لمصلحة الاتحاد السوفياتي ليصاب بعد يومين بأزمة قلبية ويموت على أثرها. خرجت الولاياتالمتحدة من الحرب العالمية الثانية بفائض هائل من الثروة، الأمر الذي ساعدها على مواجهة متطلبات القيادة السياسية وأهمها تمويل نفقات فترة ما بعد الحرب، وبخاصة عملية إعمار أوروبا، وتغطية تكاليف الرعاية الصحية لجرحى الحرب ومعاشات تقاعد من أنهوا خدمتهم، وتجديد الطاقة الإنتاجية في الولاياتالمتحدة. من جانب آخر لم تقابل أميركا معارضة شديدة من جانب القوى التقليدية الأوروبية لتوليها دور القيادة. بمعنى آخر كانت الحرب العالمية الثانية بالنسبة إلى طموحات أميركا الاقتصادية والسياسية «نعمة» حققت لها الهيمنة الاقتصادية عن طريق سيطرتها على المؤسسات الاقتصادية والمالية التي أنشأتها اتفاقيات ما بعد الحرب، إلى جانب التوسع الهائل في المصالح الخارجية وبخاصة في قطاعي النفط والتجارة الدولية. لا يمكن إنكار حقيقة أن العالم يمر الآن بمرحلة دقيقة للغاية سواء على صعيد الاقتصاد أم صعيد السياسة والتحالفات الدولية. ولا يملك المحلل السياسي، في هذه الحالة، إلا أن يقارن بين حالتين تاريخيتين، حالة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شاركت فيها أميركا بدور أساسي، وحالة ما بعد حربين أميركيتين في العراق وأفغانستان. تبدأ الحاجة للمقارنة في اللحظة التي تطرح فيها على مائدة البحث حالة الاقتصاد الأميركي الراهن بعد ثلاثة عشر عاماً من حربين إحداهما ما زالت مستعرة. يقول جون ستيغليتز، الاقتصادي الأميركي المعروف، إن أميركا استدانت ما يزيد على 2 تريليون دولار لتمويل حربي العراق وأفغانستان، وأن هذا الدين كان ولا يزال أحد أهم أسباب الأزمة الاقتصادية الأميركية التي اشتعلت في 2007. هذه الأزمة كانت الشرارة التي أثارت الشكوك في كل عاصمة من عواصم العالم في قدرة أميركا على قيادة النظام الاقتصادي العالمي في المستقبل. لا ننسى أن بريطانيا في الأربعينات واجهت المشكلة نفسها، إذ خرجت مدينة وتحت وطأة أزمة اقتصادية ومالية خانقة، وكان عليها أن تعترف بأنها لم تعد مؤهلة لقيادة النظام الاقتصادي العالمي، وكان الدليل الدامغ على هذه الحقيقة أنها لجأت إلى الولاياتالمتحدة لوضع خطة لإنقاذها وإنقاذ المؤسسات المحلية والدولية. لا يفوتنا في هذه المقارنة أن واشنطن استطاعت بالكاد إنقاذ أكبر مؤسساتها المصرفية وشركات السيارات في أزمة 2008، ولكنها امتنعت عن إنقاذ الاقتصاد الأوروبي، أو لعلها لم تتمكن، بل وربما لم تقدم التوصيات والاقتراحات التي يفترض أن تقدمها بصفتها قائدة النظام الاقتصادي العالمي. بهذا المعنى تستحق أميركا الخارجة لتوها من حربين طويلتين أن تلصق بها الصفة التي التصقت ببريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي أنها أصبحت جزءاً من المشكلة وليست جزءاً من الحل. لا يتوقف حساب كلفة الحربين، العراقية والأفغانية، عند حدود ما أنفق حتى الآن، بل يتجاوزها إلى ما سينفق بعد إحلال «السلام»، أو بمعنى أدق، بعد اكتمال انسحاب أميركا من الحربين. يفترض أن الدول المنتصرة، كأميركا بعد الحرب العالمية الثانية، تبدأ فور انتهاء العمليات الحربية في جني ثمار انتصارها، بينما الوضع الراهن يؤكد شكوكاً متزايدة في أن أميركا تخرج من الحربين «غير منتصرة». وفي رأي بعض المحللين، لم تحقق مكاسب من أي نوع تعادل التكلفة المادية للحربين. دخلت أميركا إلى أفغانستان للقضاء على «طالبان» و «القاعدة»، وخرجت، أو هي تستعد للخروج، مخلفة وراءها «طالبان» أقوى مما كانت عليه وتنظيم «القاعدة» أوسع انتشاراً بعد أن صار شبكة تنتشر فروعها في أقاليم تمتد من باكستان شرقاً إلى مالي غرباً مروراً باليمن وبما خفي وأظن أنه كثير. يشار أيضا إلى أن كلفة ما بعد الحرب في أفغانستان يقدرها الاقتصاديون بمبالغ طائلة. يقدرون مثلا لإعمار أفغانستان ما لا يقل عن 90 بليون دولار، وهو رقم بسيط إذا قورن بكلفة رعاية الجرحى ومعاشات وتعويضات الجنود التي بلغت موازنتها في العام الحالي وحده 140 بليون دولار، لذلك لا يبدو مبالغاً فيه رقم التريليون دولار كلفة كلية لحربي العراق وأفغانستان. بشر باراك أوباما الشعب الأميركي في خطابه عن حالة الاتحاد قبل أسبوع، بأن عصر حروب أميركا على وشك الانتهاء. إلا أنه لم يقدم لهم أو لغيرهم من الشعوب ضمانات لعصر من الاستقرار والسلام في العالم تحت قيادة جديدة. هناك من يتوقع مشاكل خطيرة في أفغانستان باعتبار أن أميركا تترك أفغانستان لحكومة لا تملك شرعية كافية، وباحتمالات حرب أهلية وأزمة اقتصادية وفوضى أمنية، وكلها احتمالات يمكن لو تحققت أن تتسبب في توترات إقليمية شديدة. قرأت لمن يعتقد أن تدخل فرنسا العسكري في مالي مؤشر يدعو للتفاؤل، لأنه بحسب هذا الاعتقاد يمكن أن يعني أن أوروبا قررت أن تتحرك للتدخل في مواقع التوتر لتملأ فراغاً تتركه أميركا بعد انسحابها، ويستند المتفائلون أيضاً إلى قرار في حلف الأطلسي بزيادة القوات والإنفاق على السلاح في الدول الأعضاء، وإلى آراء رائجة تصر على أن قرار بريطانيا وفرنسا بالتدخل في ليبيا سابقة يجب أن تتكرر لأنها نجحت، بأقل دعم أميركي ممكن. آخرون ما زالوا يشكون. تعودنا على الشكوى الدائمة من التدخل العسكري الأميركي في الخارج، الآن نسمع الشكوى المتكررة من أن أميركا لا تتدخل ولن تتدخل. يقول الفرنسيون إن أميركا ترفض التدخل والأدهى أنها لا تريد أن تساعد الدول التي تبدي استعداداً للتدخل. لقد ساهمت واشنطن في حرب مالي بطائرتين للنقل مؤجرتين لفرنسا. ونسمع الآن في كل مكان، حتى في عالمنا العربي من يلقي على أميركا مسؤولية إزهاق أرواح عشرات الآلاف من السوريين نتيجة رفض التدخل، ومسؤولية انتشار قواعد «القاعدة» في شمال أفريقيا. تماماً كما يحملونها مسؤولية تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية. أوباما، أو أميركا، في نظر البعض وأنا منه، تتخلى عن دورها ومسؤولياتها في قيادة النظام الدولي قبل أن ترشح خليفة أو ائتلافاً يتولى مهام القيادة ولم تسمح بتأهيل من يرغب في أداء هذا الدور من بعدها، ولم تضع قواعد ومبادئ بالحماسة التي مهدت للنظام الذي دشنته في نهاية الحرب العالمية الثانية. * كاتب مصري