تستحق الأزمة اليونانية قراءة متأنية ومتعمقة واهتماماً أكثر مما تحظى به الآن. إذ كلما ركزنا على جانب من جوانبها مكتشفين خطورة أمره تسابقت جوانب أخرى تؤكد استحقاقها الاهتمام أكثر من غيرها. فوجئنا، على سبيل المثال، بتقارير تفيد بأن تدهور الأحوال الاقتصادية في اليونان وتفاقم الأزمة المالية دفع بكبار الرأسماليين الروس، ومعهم قيادات معروفة في جماعات المافيا الروسية، الى الهبوط على اليونان لشراء عقارات وأراضٍ وجزر ومنتجعات وشركات مأزومة، وتفيد أيضاً بأن الصين حصلت على امتيازات لإدارة أكثر من ميناء بحري في اليونان، بما يعني أنها حطت قدميها لتحتل مواقع استراتيجية على البحر المتوسط. في جانب آخر، تستعر الأزمة اليونانية على مسافة قريبة من بؤرة نزاعات متعددة الأطراف في شرق البحر المتوسط تهدد أمن واستقرار المنطقة، فالعلاقات التركية - اليونانية والقبرصية - التركية والتركية - الإسرائيلية والتركية - السورية، والوضع السوري كله بشكل عام، كلها مؤشرات وضع قابل للانفجار ويهدد بتدهور مضاعف لو ارتبط بتداعيات سياسية وأمنية تفرزها الأزمة الاقتصادية في اليونان. في جانب ثالث، تزداد احتمالات انحدار المكانة الأوروبية في النظام الدولي، فالعجز الأوروبي عن إنقاذ اليونان أضاع كثيراً من صدقية الدور الأوروبي في إدارة الصراعات الدولية ومن نفوذ أوروبا السياسي في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وهي سمعة سبق أن أكدتها تجارب الاتحاد الأوروبي في التعامل مع الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. لا نستبعد، بطبيعة الحال، أن يقل اهتمام الحكومات العربية بأوروبا الغربية، وتتعمد النأي بنفسها عن جهود حل مشاكل الأوروبيين الاقتصادية والسياسية، وتخفض من درجة اعتمادها عليهم في تسوية خلافاتها وأمنها الداخلي. ومع ذلك، أو ربما بسبب ذلك، نجد صعوبة في فهم تقاعس الولاياتالمتحدة عن انقاذ اليونان، خصوصاً أن كثيراً من تداعيات الأزمة اليونانية يمس مباشرة مصالح أميركية، استراتيجية واقتصادية. وقد حاول غيديون راشمان الكاتب المعروف في صحيفة «فايناننشيال تايمز» البريطانية رصد أسباب ابتعاد أميركا عن الأزمة، في مقال متميز نشر منذ أيام قليلة تحت عنوان «أميركا واليونان وعالم يحترق». يذكرنا راشمان بأن الولاياتالمتحدة هي التي أنقذت اليونان من كارثة اقتصادية وسياسية في العام 1947، بضغط من بريطانيا العظمى التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مفلسة تماماً. أنقذتها حين قدمت لها 400 مليون دولار، وبعدها مباشرة وافق الكونغرس الأميركي على مشروع تقدم به مارشال وزير الخارجية الاميركي في ذلك الوقت لإنقاذ اقتصادات دول أوروبا الغربية، إلى جانب اليونان. كانت حجة مارشال الأولى، أن اليونان مهددة بحرب أهلية وكانت حجته الثانية أن أوروبا بأسرها وبما فيها اليونان مهددة بالزحف الشيوعي، وكانت حجته الثالثة أن استمرار الانتعاش الأميركي الذي تحقق خلال الحرب سيعتمد على انتعاش اقتصادات أوروبا. هذه الحجج لا تتوافر الآن، ولا تستطيع هيلاري كلينتون أن تستخدمها لاقناع الكونغرس، فاليونان ليست مهددة بحرب أهلية، والخطر الشيوعي غير قائم وانتعاش الاقتصاد الأميركي صار يعتمد على انتعاش اقتصادات آسيا أكثر من اعتماده على انتعاش اقتصادات أوروبا. تقاعس أميركا لا يفسره فقط نقص الحجج الضرورية لإقناع الكونغرس. نعرف، ويعرف العالم بأسره، أن أميركا اليوم ربما لا تملك من الفائض ما يكفي لحل أزمات اقتصادية بحجم الأزمة اليونانية وانقاذ اليورو واقتصادات أوروبا المنهكة. ان أقصى ما يمكن أن تفعله أميركا في الوقت الراهن هو محاولة اقناع ألمانيا بتخصيص أموال أوفر لإنقاذ اقتصادات إيطاليا واليونان وإسبانيا، وممارسة دور سياسي أكثر فاعلية في قيادة القارة الأوروبية. حتى هذا الدور لن يكون بالكفاءة التي تمتع بها حين تدخلت الولاياتالمتحدة في عقد التسعينات لانقاذ الاقتصادات الآسيوية من الأزمة المالية التي كادت تودي بها والاقتصاد العالمي معها. وقتها كانت الولاياتالمتحدة ما زالت تتمتع بمكانة الدولة الأعظم، وربما القطب الأوحد، لذلك نجحت في أن تضغط حتى حققت انجازاً دولياً لا تستطيع بالتأكيد تحقيقه الآن بعد أن تأكد لكل دول العالم، وأوروبا بخاصة، عجز اميركا عن إدارة أزمتها الاقتصادية التي نشبت في العام 2007، وبعد أن أصبح جلياً للجميع أن أميركا قررت تقليص حجم تدخلها الخارجي بما يتناسب وتناقص قوتها الاقتصادية والعسكرية. كذلك يفسر تقاعس أميركا، أو عجزها أو ترددها، التحول الكبير في سياساتها الخارجية حين قررت أن يكون المحيط الهادي وشرق آسيا البؤرة الجديدة لاهتماماتها الخارجية. لم يعد الأطلسي المحور الأساسي الذي تدور حوله اهتمامات الاستراتيجية الدفاعية والاقتصادية الأميركية. يكفي أن نقارن حجم الاتصالات وعدد الزيارات التي يقوم بها مسؤولون أميركيون للخارج، لنعرف عمق وآفاق هذا التحول، وموقع أقاليم العالم والدول في الخريطة الجديدة للاهتمامات الخارجية الأميركية. يذكر راشمان على سبيل المثال حقيقة أن هيلاري كلينتون لم تقم سوى مرة واحدة بزيارة إلى اليونان خلال عام أو أكثر، بينما تعددت زياراتها لمنطقتي جنوب وشرق آسيا، برغم أن في اليونان أزمة خطيرة تهدد الاستقرار الاقتصادي للقارة الأوروبية، وتهدد الاستقرار السياسي والأمني في الركن الشمالي الشرقي من البحر المتوسط. وهو الأقرب إلى إقليم مشتعل بأزمات عدة وبثورات شعبية عارمة وبتوترات شديدة الخطر. تعيد أميركا في الوقت الراهن ترتيب أولوياتها لتتناسب مع حالة إمكاناتها ولا يبدو أن الشرق الأوسط، ولفترة مقبلة ، ستتبدل مواقعه في سلم الولاياتالمتحدة، ولكن قد تتغير أولويات التدخل، بمعنى أن الولاياتالمتحدة ستفضل اللجوء إلى أسلوب توكيل أطراف دولية أخرى، وبخاصة من أوروبا، للقيام بمهام كانت تقوم بها الولاياتالمتحدة بنفسها كالمهمة التى قامت بها في العراق والمهمة التي تقوم بها في أفغانستان. وتشير التدخلات الأخيرة إلى أنه لا توجد قاعدة أو معيار واحد يحدد طبيعة الدولة التي تختارها أميركا للتدخل نيابة عنها أو تحت إشرافها، فقد تدخلت، أو تسعى للتدخل، دول متباينة القوة والاستعداد والموقع مثل فرنسا وبريطانيا وتركيا وقطر وكينيا، وتدخلت، أو اختيرت للتدخل، منظمات إقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي. ويعتقد معلقون ومراقبون أن جميع تجارب التدخل التي حدثت في الآونة الأخيرة لم تسفر عن نتائج باهرة أو حققت استقراراً وسلاماً، بعضها خلّف فوضى ودماراً وبعضها لا يزال يحاول. على كل حال لم يكن التدخل الأميركي المباشر في العراق وأفغانستان أكفأ أو أفضل، وبشكل خاص في ما يتعلق بتحقيق الاستقرار والوئام الاجتماعي واحترام حقوق الإنسان. ولا يوجد ما يبشر أن التدخل غير المباشر في دول تشهد إضطرابات وثورات سيكون أقل كلفة وخسائر مادية. * كاتب مصري