الحدث الذي كان له أعمق الأثر في النقاش السائد حول إمكانية تراجع وأفول الإمبراطورية الأمريكية، هو الحدث العراقي، حيث تحول غزو العراق واحتلاله إلى كارثة وصفها الجنرال الأمريكي المتقاعد وليام أودوم بأنها أكبر كارثة استراتيجية في تاريخ الولاياتالمتحدة، ووصفها رئيس مجلس الأمن القومي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي بأنها كارثة تاريخية واستراتيجية. فقد استنزف هذا الغزو والاحتلال أمريكا سياسيا واقتصاديا وماليا وبشريا، والأكثر خطورة من كل ذلك هو أنه استنزفها نفسيا، وأطاح بهيبتها وصورتها الأخلاقية في العالم، وأثار الكثير من المخاوف والهواجس القلقة على أمريكا ومستقبلها في العالم. ونتيجة لذلك ارتفعت الأصوات التي تنذر بخطر تراجع وانحدار الولاياتالمتحدة، فعلى أثر زيارة الرئيس الصيني جنشاو إلى أمريكا في أبريل 2006م، اعتبرت صحيفة الأنديبندنت البريطانية أن هذه الزيارة تؤكد حتمية فقدان واشنطن تفوقها الاقتصادي لصالح الصين في المستقبل القريب، ونقلت عن من أسمتهم خبراء ومحللين اقتصاديين وسياسيين أمريكيين ودوليين قولهم بأن الولاياتالمتحدة تدخل مرحلة الانحطاط الحتمي، شبيهة بتلك التي تعرضت لها بريطانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتفكك إمبراطوريتها. وفي وقت آخر، حذر المراقب العام للولايات المتحدة ديفيد ولكير في حوار مع صحيفة فايننشال تايمز البريطانية في أغسطس 2007م، من احتمال سقوط الإمبراطورية الأمريكية على غرار الإمبراطورية الرومانية من قبل، وذلك لوجود الأعراض التي أدت إلى زوال سلطة روما وأفول شمسها للأبد. وأن هناك تشابها كبيرا في نظر ولكير بين الوضع الحالي للولايات المتحدة وما كانت عليه الإمبراطورية الرومانية في آخر عهدها، من حيث الغطرسة والثقة الزائدة بالنفس، والتوسع العسكري في البلدان الأخرى، وتزايد ديون الحكومات الأجنبية على الحكومة الاتحادية الأمريكية. ومن أكثر الكتابات وضوحا في هذا الصدد مقالة فيليب غولوب في لوموند ديبلوماتيك الطبعة الإنجليزية عدد أكتوبر 2007م، التي حملت عنوان (شمس القرن الأمريكي تغرب مبكرة بعد نهاية الإمبراطورية)، في هذه المقالة قدم غولوب تحليلا سياسيا ارتكز فيه على حدثين كبيرين مختلفين من حيث الطبيعة والوظيفة، الحدث الأول يتصل بالحاضر، ويمثل العامل الذي لعب دور المأزق، وهو حدث غزو واحتلال العراق. والحدث الثاني يتصل بالتاريخ, ويمثل العامل الذي لعب دور المقارنة والتشبيه، وهو حدث تصدع ونهاية الإمبراطورية البريطانية. فقد افتتح غولوب مقالته من السطر الأول بقوله: إن غزو واحتلال العراق تسبب بنشوب أزمة في أوساط نخبة السلطة في الولاياتالمتحدة، هي أعمق من تلك التي نجمت عن الهزيمة التي لحقت بها في فيتنام قبل ثلاثين سنة. وذلك لكون أن هذه الحرب الكارثية قد كسرت في نظر الأمريكيين الجيش الأمريكي تقريبا، وأوهنت دولة الأمن القومي، وخفضت بحدة إن لم يكن نهائيا من مشروعية أمريكا الكونية، وقدرتها على تشكيل العالم ووضع الأجندة الكونية. وهذا يعني في نظر غولوب أن كارثة العراق وضعت حدا لنهاية حلم الإمبراطورية الأمريكية التي اعتبرت نفسها منذ أربعينيات القرن العشرين أنها أصبحت الوريث الشرعي والوحيد للأصول الاقتصادية والسياسية للإمبراطورية البريطانية حيث انتقل الصولجان إليها، لكن وبعد ستين عاما بدأ هذا الحلم يتلاشى، وبدأت الشمس تغرب عن القرن الأمريكي مبكرة. وفي هذا السياق أيضا، جاءت مقالة الكاتب الأمريكي تشارلي ديز في ديسمبر 2007م، بعنوان (الإمبراطورية الأمريكية تسير إلى الاضمحلال)، واختتمها في الأسطر الأخيرة منها بقوله: إنني أرى أن إمبراطوريتنا تسير نحو الاضمحلال والانهيار. وفي هذا السياق كذلك، جاء كتاب المؤرخ والأنثروبولجي الفرنسي إيمانويل تود الذي حمل عنوان (ما بعد الإمبراطورية.. دراسة في تفكك النظام الأمريكي) الصادر سنة 2002م، حيث اعتبر فيه أن الإمبراطورية الأمريكية هي اليوم في طور التفكك والأفول، مستندا في ذلك على عوامل ومعطيات، وحقائق وأرقام، اقتصادية وفكرية وديمغرافية وعسكرية، ومستعينا بخبرته في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية. هذه عينة من المواقف والكتابات التي نعرفها، ولا نعلم ما يدور في المواقف والكتابات التي لا نعرفها، أو تلك التي ستأتي لاحقا. والمؤكد في هذه المواقف والكتابات أنها لا يمكن أن تكون كلها بعيدة عن جادة الصواب، كما لا يمكن تخطئتها كلها، خصوصا بعد هذا التعاضد والتواتر. والشيء الأكيد في كل هذه المواقف والكتابات أن الوهن بدأ يدب في كيان الإمبراطورية الأمريكية، والوهن هو أخطر ما يصيب الأمم لأنه يظل يسري في الخفاء، وبدون انكشاف، ولا يتوقف عند حد، وأعراضه لا تظهر سريعا، إلى أن يتمكن ويستفحل وعندئذ يصعب ضبطه والسيطرة عليه. وكما كان البريطانيون لا يتخيلون نهاية إمبراطوريتهم التي ضمت ربع مساحة العالم، مع ذلك أفلت إمبراطوريتهم وغابت عنها الشمس، واعترف البريطانيون بهذا الأفول والسقوط، كذلك الأمريكيون قد لا يتخيلون نهاية إمبراطوريتهم، لكن النهاية قادمة لهم، لأن الأفول والسقوط لا يأتي عاجلا وفي دفعة واحدة، وهناك دائما في قوانين المدنيات والحضارات مسافة طويلة ما بين بداية السقوط ونهايته. وعلى غرار كتاب (أفول وسقوط الإمبراطورية البريطانية)، سيأتي من يؤلف لاحقا كتاب (أفول وسقوط الإمبراطورية الأمريكية). [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 115 مسافة ثم الرسالة