من الشائع أن تهاجر التكنولوجيا العالية من الدول الأكثر تقدّماً إلى دول عالمثالثية تتوافر فيها العمالة الماهرة والرخيصة والمواد الخام والإعفاءات الضريبية والاستقرار السياسي المدعوم بقوانين مُرحّبة برأس المال الأجنبي والطاقة الرخيصة وغيرها من العوامل التي يفترض أنها تجذب الشركات التي تعمل في التقنيات المتطوّرة. ومن الأمثلة على هذا، أن شركة «نوكيا» Nokia العالمية بنت مصنعاً لها في فيتنام، باستثمارات قدرها 300 مليون دولار. وتخلصت من ثلاثة آلاف عامل في مصنعها في دولتها الأم فنلندا، بينما تخطّط لتوظيف 10 آلاف عامل في فيتنام. واتخذت الشركة قراراً بنقل بعض خطوط إنتاجها إلى فيتنام بسبب الأجور المنخفضة لليد الماهرة فيها، إضافة إلى الإعفاءات الضريبية التي تقدّمها للمستثمرين الأجانب ممن يهتمّون بسرعة وصول منتجاتهم إلى الأسواق الآسيوية. وفى سياق مماثل، افتتحت شركة «باناسونيك» Panasonic العالمية مصنعاً لها في مطلع 2013، في مدينة «غاهغار» الهندية. جاذبية مصر تعتبر مصر من أهم دول الشرق الأوسط وأفريقيا الجاذبة للشركات الكبرى التي تسعى للتوسّع في هذه المنطقة. وفي هذا السياق، تبني شركة «تويوتا» اليابانية أول خط لتجميع سيارتها الرياضية الشهيرة «فورشنر» في مصر، على رغم الظروف الصعبة التي تعانيها. وتتعاون «تويوتا» مع «الهيئة العربية للتصنيع» في إنتاج ثلاثة آلاف سيارة من هذا النوع سنوياً. ومن المنتظر أن يفتتح المصنع في نيسان (ابريل) 2013. كما جذب محور قناة السويس ووادي التكنولوجيا فيه عدداً من الشركات العالمية. واستطراداً، تبدو مصر مؤهّلة لجذب الشركات العالمية في المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، إذ تخرّج الجامعات المصرية قرابة 430 ألفاً سنوياً، منهم قرابة 60 ألف متخصّص في إدارة الأعمال، كما تضمّ صفوفهم31 ألفاً يتقنون اللغات الأجنبية بطلاقة. وتبلغ أجور العمالة الماهرة قرابة 300 دولار شهرياً. يضمّ مشروع «القرية الذكيّة» قرب الأهرامات، قرابة 100 شركة كبرى تعمل في المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، توظف ما يزيد على 22 ألفاً من أصحاب المهارات العالية. بينها شركات مثل «آي بي إم» IBM و«إريكسون» Ericsson و«فودافون» Vodafone و«مايكروسوفت» Microsoft و«غوغل» Google. ويخطط القائمون على «القرية الذكيّة» لاجتذاب 600 شركة وتوظيف 100 ألف عامل مع حلول العام 2014. كما بلغت الصادرات المصرية في تقنية المعلوماتية قرابة 1.4 بليون دولار. ومن المتوقع أن تصل إلى 20 بليون دولار في 2020. وأشار تقرير صدر عن البنك المركزي أخيراً، إلى أن الاستثمارات الأجنبية الداخلة إلى مصر وصلت إلى 2.44 بليون دولار في الربع الأول من السنة المالية 2012/ 2013، مقابل خروج قرابة 2.14 بليون دولار بسبب عدم الاستقرار السياسي والعنف. وبذا، ربما بدا مدهِشاً أن تعمد شركة عالمية كبرى من وزن «سامسونغ» Samsung الكورية الجنوبية، إلى الاستثمار في منطقة الصعيد في أقصى جنوب مصر. تشتهر هذه المنطقة بقلّة عدد الجامعات فيها، وارتفاع نسبة الأمية والفقر وحوادث الثأر والعنف القبلي وغيرها. ويؤثر عن المجتمع الصعيدي طبيعته المحافظة، وعدم تقبّله تشغيل النساء. وفي المقابل، معروف عن الصعيدي رجولته وشهامته وأمانته وإخلاصه وغيرها من الأخلاق الحميدة. وهناك ميزة أخرى ربما جذبت هذه الشركة العالمية، تتمثّل في تدني أجور أبناء الصعيد، بل ربما وصلت إلى 45 دولاراً في الشهر للعمالة الأُميّة. «ربيع تقني» في هذا السياق، بيّنت «سامسونغ» أنها تعكف حاضراً على بناء أكبر مصنع للمبتكرات الإلكترونية خارج كوريا الجنوبية، وهي موطنها الأم، وأنها اختارت صعيد مصر مقرّاً له. ومن المقرر أن يُشاد المصنع في منطقة كوم أبو راضي، وهي منطقة صناعية في الصعيد مصر. وتلامس كلفته ال 1.8 مليار جنيه (قرابة 6.3 مليون دولار). ومن المخطط أن يفتتح المصنع في مطلع الربيع المقبل. وقد أعلنت الشركة عزمها توظيف 1400 عاملاً في تخصّصات مختلفة، برواتب شهرية تتراوح بين 1500 و5 آلاف جنيه. وبمعنى آخر، يتراوح أجر مهندس الإلكترونيات أو مدير الأعمال في هذا المصنع، بين 250 و833 دولاراً في الشهر. ومن المخطط أن يصل حجم استثمارات الشركة في منطقة أبو راضي، إلى قرابة 9 مليارات جنيه، ما يخلق 6 آلاف فرصة عمل في مصانعها السبعة المقرر إنشاؤها في المنطقة عينها مع حلول العام 2016. وبصورة مماثلة، تعكف شركة «إندست» الإيطالية على دراسة إنشاء مصنع للأجهزة الكهربائية في الصعيد، بقرابة 100 مليون يورو. ويتوقع أن يحتضن الصعيد مشروعات التكامل بين مصر والسودان وأفريقيا، إذ بيّن الرئيس محمد مرسي أنه يعتزم تعزيز ربط مصر بالسودان ثم أفريقيا، عبر مطار دولي في الجنوب، إضافة إلى خط للسكك الحديد وشبكة للطرق السريعة. وفي هذا السياق، يُعمَل على شقّ طريق بري بين مصر والسودان، هو الأول بين البلدين، من المُقرّر افتتاحه في آذار القادم. وهناك مشروع لبناء منطقة أفريقية حرّة في المنطقة ذاتها، لتكون نافذة أخرى لمصر على أفريقيا. كما تخطط الحكومة لجعل الصعيد واحة لإمداد مصر وأوروبا بمصادر الطاقة المتجددة، إذ يُعرف عن الصعيد غناه بمصادر الطاقة المتجدّدة الرخيصة، كالطاقة الكهرومائية والشمسية. كما يتمتع الصعيد بأحد أعلى معدلات سطوع الشمس عالمياً، وهو 3 آلاف ساعة سنوياً. في هذا السياق، خصّص الرئيس مرسي 3600 فدان لمشروعات الطاقة الشمسية بمنطقة «كوم إمبو» لتوليد 150 ميغاواط/ساعة من الألواح الشمسيّة. كذلك وقّع على مُذكّرة تفاهم مع مؤسسة «ديزرتيك» Desertec الألمانية-الأوروبية للتعاون في مجال الطاقة الكهربائية المستخرجة من الشمس، أثناء زيارته لألمانيا أخيراً. ويجري العمل على ربط شبكة كهرباء مصر بشبكات السودان ودول أعالي النيل، ما يجعل صعيد مصر ممراً للطاقة الأفريقية إلى أوروبا، ومكاناً جاذباً للصناعات الكهربائية. على رغم ذلك، تظلّ هذه المشروعات رهن الاستقرار والتوافق السياسي، بين الحكومة والمعارضة في مصر. * أكاديمي مصري