تحظى مصر بعوامل بيئية وبشرية واقتصادية وجيوسياسية، تستطيع دعم ازدهار أودية التقنية الرقمية وحاضنات المعرفة المعلوماتية، إضافة إلى قرى الصناعة والطاقة ومراكز المال والأعمال؛ إذ تتمتع مصر بموقع مهم في الجغرافيا الفعّالة عالمياً، ما يقلّل كلفة الوصول إلى الأسواق العالمية، إضافة إلى الأهمية المعروفة لقناة السويس التي تعتبر شرياناً أساسياً في التجارة العالمية. وأشارت بعض التقديرات الحديثة إلى أن قناة السويس يمر بها قرابة 40 في المئة من حركة السُفن والحاويات عالمياً. وقدّر عدد السفن التي تعبرها سنوياً بقرابة 20 ألفاً، تصل إيراداتها إلى ما يزيد على 5 بلايين دولار. واستطراداً، تبدو منطقة قناة السويس مناسبة لأن تصبح مركزاً عالمياً لتجارة الأعمال والأموال، إضافة إلى احتضان أودية لتكنولوجيا صناعة السُفُن وصيانتها وخدمات تموين الملاحة البحرية وما يرتبط بها من عمليات الشحن والتخزين والتأمين وغيرها. وفي هذا السياق، ظهر اقتراح أخيراً بإنشاء منطقة صناعية لبناء وإصلاح السفن في «ميناء الأدبية» بمحافظة السويس. تعتبر قناة السويس ممراً أساسياً لكابلات الاتصالات العالمية والألياف الضوئية التي تشكّل الهيكل الأساسي لشبكة الإنترنت، ما يعزز من علاقتها مع تقنيات المعلوماتية، ويطرح أسئلة عن مدى جاهزيتها في البنى التحتية الإلكترونية. وتزخر سواحل قناة السويس بإمكانات تؤهلها لأن تكون مركزاً للسياحة والاستجمام، خصوصاً مع تقديم دعم تقني معلوماتي بما يكفي لتحديث هذا البُعد الحسّاس. كما تتمتع صحاريها وسواحلها بمزايا خاصة تؤهلها لمكانة رائدة في تكنولوجيا الطاقة المتجددة وعلومها. كما تزخر بإمكانات بشرية وخبرات عملية وموارد المياه والظروف المناخية، ما يجعلها صالحة لأن تكون بؤرة للمزارع البحرية النموذجية، ومركزاً لبحوث الزراعة والثروة الحيوانية. ويتميز الساحل الشمالي في مصر وسواحل شبه جزيرة سيناء، بالسهولة في التضاريس، ما يعتبر عاملاً جاذباً للاستثمار فيه. رأسمال المعرفة إذاً، تحتاج أودية التقنية الرقمية وحاضنات المعلوماتية إلى أمكنة تتوافر فيها عوامل أساسية مثل التقدّم في البنى الإلكترونية للمعلوماتية والاتصالات، والبنى التحتية التقليدية الفعّالة في المواصلات والمستشفيات والجامعات والخدمات اللوجستية وغيرها. ولا بأس من الإشارة إلى أن اعتدال المناخ في مصر يقلّل من الحاجة إلى استهلاك طاقة كبيرة في التبريد والتدفئة. في منحى أكثر علميّة، تضمّ مصر أكبر قاعدة معرفية وأوسع مخزون لرأس المال البشري والعمالة الماهرة الرخيصة في المنطقة العربية. وتحتوي عدداً من الجامعات المرموقة والمعاهد العليا والمراكز البحثية ومراكز التدريب، مع ما تزخر به هذه المؤسسات من باحثين وعلماء. وتضمّ مصر ما يزيد على 200 ألف من حاملي الدكتوراه. وسنّت قوانين لحماية حقوق الملكية الفكرية. وانخرطت أعداد كبيرة من شبابها في منافسات عالمية في الرياضيات والحاسوب والفضاء وغيرها. وتزخر مصر بإمكانات فريدة تؤهلها لمكانة عالمية في صناعة تقنيات المعلوماتية والاتصالات. ومثلاً، يتميّز قطاع الاتصالات في مصر بالمنافسة الشديدة، مع انخفاض في أسعار المكالمات الصوتية. وتقدّم شركات الاتصالات خدمات الإنترنت الفائق السرعة بأسعار متدنية تصل إلى 6 دولارات شهرياً. كما بلغ عدد مستخدمي الإنترنت ما يزيد على 24 مليون شخص، فيما وصل جمهور موقع «فايسبوك» إلى قرابة 10.5 مليون. إضافة إلى هذا، تعتبر مصر مركزاً لشبكة الكهرباء العربية الموحّدة التي تضم ثماني دول، ويخطط أن تضمّ قريباً قطاع غزة والسودان، ولربطها بشبكات مماثلة في أفريقيا وأوروبا. وتتوافر في مصر مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة مثل الأمواج والشمس والرياح. وفي الآونة الأخيرة، انكبّت بعض الشركات الأوروبية على دراسة جدوى إنشاء مشروع «ديزرتيك» العملاق، الذي يشمل مساحات شاسعة في شمال أفريقيا، منها صحراء مصر الغربية، بهدف إمداد أوروبا بطاقة الكهرباء المستخرجة من الشمس. واستطراداً، ثمة توقّع بأن يستضيف الساحل الشمالي، وتحديداً منطقة الضبعة، مشروعات الطاقة النووية، ما يفترض أن يحفز على توفر المناخ المناسب لتشييد مدن الطاقة، مع الحثّ على الاهتمام بازدهار علوم الطاقة وتكنولوجياتها، وهندسة الكهرباء والصناعات المتعلقة بها. يضاف إلى هذه الصورة، أن النطاق الزمني الجغرافي لمصر يؤهلها لاستضافة «مراكز الاتصال» («كول سنترز» call centers) ومكاتب الخدمات العالمية في الشبكات الخليوية المتطوّرة، لأنه يقع في نطاق متوسّط بين القارات. ومن عوامل نجاح المناطق الصناعية وأودية التكنولوجيا في مصر توافر العمالة الماهرة والرخيصة، وزيادة عدد المصريين ممن يتقنون اللغات الأجنبية، لا سيما الإنكليزية. يضاف إلى هذا أن مصر لديها رصيد كبير من رأس المال الاجتماعي Social Capital، المتمثل في النقابات والأحزاب وهيئات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية وجماعات نشطاء الإنترنت، التي يمكن توجيهها لخدمة النهضة العلمية والتكنولوجية وبرامج التدريب والرعاية الصحيّة. الحاجة إلى أكاديميين أجانب وينمو في صحراء سيناء عدد كبير من الأعشاب الطبية، إضافة إلى وفرة في إمكانات السياحة الصحيّة في مناطق الرمال الساخنة، كحال منطقة «عيون موسى»، ما يؤهلها للمنافسة عالمياً في علوم الطبّ البديل وصناعاته. ويشكل سكان مصر ومحيطها العربي والأفريقي، سوقاً كبيرة لتسويق منتجات أودية التكنولوجيا الرقمية. وترتبط مصر بالأسواق الأوروبية والعربية والأفريقية بمجموعة من اتفاقات الشراكة، كتلك المُبرمة مع الاتحاد الأوروبي ومنظومة «كوميسا»، ومنطقة التجارة العربية الكبرى. كما ترتبط مصر بالخارج بموانئ ومطارات دولية. وتزخر أرضها بثروات طبيعية تشمل المعادن ومصادر الطاقة والحجار والرمال، والأخيرة تعتبر أساساً في صناعة السليكون، وهو مادة أساسية في صناعة المعلوماتية، إذ يشكل حجر الزاوية في صناعة الرقائق الإلكترونية: العقول المُفكّرة في الحواسيب. كما أن مكانة مصر في العالمين العربي والإسلامي، وطبيعة مجتمعها، وانخفاض تكاليف المعيشة فيها، والسمعة الراسخة لمؤسساتها العلمية، ترشحها لتسنّم مكانة فريدة في جذب شباب الدارسين من دول عربية وإسلامية وأفريقية، خصوصاً في اللغات والسياسة والآثار والطب البديل والزراعة وغيرها. واستطراداً، ثمة حاجة لتطعيم نظام التعليم العالي ومراكز البحث العلمي، بنخب من الأكاديميين الأجانب في العلوم والتكنولوجيا. وتوجد في مصر احتياطات كبيرة لعدد من خامات التصنيع المهمة. هناك احتياطات ضخمة من البترول والغاز، ثمة مناجم كبيرة لخام الحديد في منطقة أسوان والصحراء الشرقية والواحات البحرية. وتوجد خامات المنغنيز في منطقة «أم بجمة» بسيناء. ويتوافر الذهب في الصحراء الشرقية، كحال «جبل السكري». ويوجد فيها أيضاً عنصر ال «تيتانيوم» في المنطقة الواقعة بين رشيد والعريش. وتتوافر خامات القصدير وال «تنغستن» والكروم في الصحراء الشرقية، وكذلك الحال بالنسبة للنحاس في مناطق سرابيط وفيران وسُمرة من صحراء سيناء. ويتوافر الفوسفات في منطقتي القصير وسفاجة على البحر الأحمر، إضافة إلى إدفو وقنا وفي أعالي النيل، ومنطقة «أبو طرطور» في الصحراء الغربية. وفي مناطق عدّة تتوافر خامات الكاولين والكوارتز والصوديوم والبوتاسيوم والكبريت والباريت والغرانيت والحجر الجيري وغيرها. وتتوافر في سيناء رمال بيض من النوع المستعمل في صناعة الخلايا الشمسية والألياف الضوئية والشرائح الإلكترونية. وأخيراً، شرعت مصر في تشييد «وادي سيليكون» في منطقة الإسماعيلية، اعتماداً على هذه الرمال. يحتوي جوف مصر البترول والغاز الطبيعي، ما يفتح فرصاً كبيرة أمام صناعات تكرير البترول والبتروكيماويات. ويفترض بصانع القرار المصري ألا يخلط بين تنمية المناطق الصناعية وأودية التكنولوجيا، وأن يركز على تشجيع الاستثمارات في تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، مع دعم المبتكرين ورعاية برامج البحث والتطوير علمياً. * أكاديمي مصري