في عام 1989 انفردت واشنطن بإدارة شؤون العالم بعد هزيمة موسكو في الحرب الباردة، في حالة لم تسبقها إليها سوى روما إثر هزيمتها للمصريين في عام 31 قبل الميلاد في معركة أكتيوم. حافظت روما على هذه الوضعية حتى عام 330 ميلادية عندما نشأت القسطنطينية كعاصمة للإمبراطورية الرومانيةالشرقية. منذ ذلك الحين، دخل البيزنطيون في منافسة الرومان، ثم الفرس، ولم تستطع دولة كبرى أن تنفرد بالعالم، وهذا ما ينطبق على المسلمين في دمشق وبغداد وبعدهما القاهرة وإسطنبول، ثم على مدريد ولندن التي أصبحت بعد هزيمتها لمدريد في معركة الأرمادا (1588) ثم الفرنسيين في حرب السنوات السبع (1756-1763) عاصمة الدولة الأعظم في العالم حتى عام 1945 قبل أن تفضي نهاية الحرب العالمية الثانية إلى ثنائية القطبين: واشنطنوموسكو. أدارت واشنطن الأزمات العالمية منفردة، في أزمة الكويت (منذ 2 آب/ أغسطس 1990) التي أفضت إلى حرب الخليج الثانية في عام 1991، حيث منعت مبادرات فرنسية- جزائرية، ثم سوفياتية من غورباتشوف وبريماكوف، لحل الأزمة، ثم في حرب البوسنة (1992-1995) لما أفشلت خطة فانس- أوين في 1993 ولما استطاعت تغيير موازين القوى لغير مصلحة الصرب ولمصلحة الكروات ومسلمي البوسنة قامت بجلب المتحاربين إلى قاعدة أميركية في مدينة دايتون نهاية 1995 وأنتجت حلاً أميركياً لأزمة أوروبية. في 1999 شنت واشنطن حرباً على صربيا بسبب إقليم كوسوفو بعيداً من مجلس الأمن وضد إرادة روسيا والصين. في عام 2003 حصل غزو العراق ضد إرادة باريس وبرلين وموسكو وأنقرة والرياض والقاهرة ووسط صمت صيني مطبق وكاد تجاهل الولاياتالمتحدة للأمم المتحدة أن يؤدي بها إلى مصير عصبة الأمم إثر الغزو الإيطالي للحبشة في عام 1936. ظهرت أيضاً قدرة أميركا وتصميمها على نزع النفوذ الفرنسي في منطقة البحيرات الأفريقية الكبرى (رواندا- بوروندي- زائير) من خلال استغلال انفجار نزاع قبيلة التوتسي ضد أكثرية الهوتو الموالية تقليدياً لباريس، وما أدى إليه هذا النزاع بين عامي 1993 و1994 من تداعيات أطاحت بالجنرال موبوتو في زائير عام 1997، وكان أرسل الرئيس ديستان عام 1977 القوات الفرنسية لإنقاذه من حركة تمرد داخلية. في الجزائر ومنذ نيسان (أبريل) 1999 حل الأميركيون مكان النفوذ الفرنسي، وهو ما جرى أيضاً بالتزامن، وبشكل نسبي، في موريتانيا والسنغال وتشاد. في أزمة جنوب السودان أدارت واشنطن الأزمة بالوكالة من خلال أوغندا (التي كانت وكيلاً أميركياً في أزمات البحيرات) وإثيوبيا، وفي دارفور منذ 2003 عبر تشاد. في الفضاء السوفياتي السابق سيطرت واشنطن على عقود نفط أذربيجان وغاز تركمانستان وحصلت على قواعد وتسهيلات عسكرية في قرغيزيا وأوزبكستان ووصلت قوى موالية لواشنطن إلى السلطة في جيورجيا وأوكرانيا في عام 2004. أتت النذر الأولى لتضعضع قوة واشنطن من منطقة الشرق الأوسط بسبب ما أدت تداعيات «اليوم التالي» لغزو العراق إلى أرباح إيرانية كبرى جعلت بغداد عملياً في قبضة القوى الموالية لطهران، وهو ما أدى إلى تحويل إيران إلى «قوة إقليمية عظمى» على حد تعبير القائد السابق للحرس الثوري الإيراني الجنرال رحيم صفوي، الأمر الذي جعلها تفك تحالفها مع الأميركيين أثناء غزو العراق لتبدأ منذ آب 2005 باستئناف برنامجها للتخصيب النووي ثم تدخل في مجابهة مع واشنطن في لبنان 2005-2008 وغزة 2007 واليمن عبر دعمها للحوثيين ثم تقوم بالتفرج على الأميركيين وهم يدخلون في تخبط أفغاني بدأ منذ ربيع 2006، شبيه بما جرى للسوفيات هناك في الثمانينيات. عملياً، أفلت الشرق الأوسط من أيدي واشنطن منذ عام 2006 بخلاف خطط واشنطن مع غزو العراق في بناء «الشرق الأوسط الجديد» لتقع المنطقة في مدارات أصبحت طهران اللاعب الأكبر فيها. في آب 2008 قامت روسيا باستعراض يظهر استيقاظ قوتها من خلال حربها على جيورجيا، مستغلة تلك البوادر للضعف الأميركي التي ظهرت في المنطقة الممتدة بين كابول والشاطئ الشرقي للبحر المتوسط. خلال سنوات 2009-2011 استطاعت موسكو استعادة نفوذها القديم في أوزباكستان وقرغيزيا وأوكرانيا وأن تساهم بعام 2012 في دعم القوى التي هزمت انتخابياً الرئيس ساكاشفيلي الموالي لواشنطن في جيورجيا كما حصّلت توازناً للقوى يعادل أو يقترب من القوة الأميركية في أذربيجان وتركمانستان. خلال الشهر التالي للحرب الروسية - الجيورجية حصل انفجار الأزمة المالية- الاقتصادية في الولاياتالمتحدة، والتي لم تمتد إلى أوروبا إلا في عام 2011. في يوم 16 حزيران (يونيو) 2009 أعلن عن قيام (مجموعة دول البريكس) من روسيا والصين والهند والبرازيل قبل أن تنضم جنوب أفريقيا في العام التالي. في بيانه التأسيسي أعلن هذا التكتل عن السعي إلى إنشاء «عالم متعدد القطب». وبحسب التصنيف العالمي للقوة الاقتصادية، وفق الناتج المحلي الإجمالي، تحتل الصين المركز الثاني بعد الولاياتالمتحدة والهند الرابع وروسيا السادس والبرازيل التاسع، وإذا أضفنا اليابان الثالثة فإن هذا يعطي مؤشرات، على المدى المتوسط والبعيد، على انتقال الثقل الاقتصادي العالمي من ضفتي الأطلسي إلى آسيا. لم يترجم هذا التكتل العالمي الجديد صوته في الأزمات العالمية إلا في عامي 2011 و2012 أثناء الأزمة السورية لما دخل، وبالتحالف مع إيران، كحائط صد أمام واشنطن، واستطاع هذا التكتل ليس فقط أن يجبر واشنطن على أن تأخذ وضعاً دفاعياً في الأزمة السورية، وإنما أن يظهرها في وضعية الإقرار بأن مفتاح حل الأزمة السورية في موسكو وربما أيضاً في طهران، في رسالة أراد فيها الكرملين القول، وعبر اختبار عملي، بأن القطب الواحد لم يعد قادراً على إدارة أزمة أو حسمها، وذلك في أزمة بلد كانت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة أول أزمة تأخذ طابع المجابهة والمواجهة وكسر الإرادات بين موسكووواشنطن. الفرنسيون، من جانبهم، كان تزعمهم لعملية الناتو في ليبيا عام 2011، ثم للعملية العسكرية في مالي في 2013، تعبيراً أيضاً مثل الروس عن استغلالهم لضعف واشنطن من أجل تقوية النفوذ الفرنسي. * كاتب سوري