بين «العمرين» شعب يضرب أخماساً بأسداس. فهو لا يعرف لأي ميزة تعين هذا في وظيفة مرموقة بعد أشهر قليلة من التخرج، ولا لأي جرم قتل ذاك بطلقتين إحداهما في الصدر والثانية في الرقبة. لا حديث لمصر الآن إلا عن «العمرين». ولولا التزامن لغضب بعض الناس بعض الوقت، لكن تزامن التعيين العجيب مع القتل الرهيب أغضب كل الناس كل الوقت! وقت طويل يمضيه كبار المسؤولين وعتاة الفاهمين لإدارة شؤون الوطن لتوصيل الرسالة الى من لا يزالون ممسكين بتلابيب «الميري» ويصرون على التمرغ في ترابه. فالمستقبل للأعمال الحرة، والفرصة في القطاع الخاص، وطوق النجاة من البطالة والحاجة يكمن في الابتعاد عن الوساطة و «الكوسة». «الكوسة»، التي كرهها المصريون ليس لطعمها بل لارتقاع سعرها (سبعة جنيهات للكيلوغرام) ولثقافة الوساطة والمحسوبية المعروفة شعبياً ب «الكوسة»، فرضت نفسها بقوة وثقة مع انتشار خبر تعيين عمر نجل الرئيس محمد مرسي الذي تخرج في الجامعة قبل أشهر قليلة. ففي بلد تشير إحصاءاته الرسمية إلى أن نحو ثلث العاطلين من العمل - الذين يقدر عددهم ب 3.5 مليون شخص - يحملون شهادات جامعية، وبعد ثورة قامت ضمن ما قامت من أجله لمناهضة الفساد والمحسوبية، وفي ظروف سياسية واقتصادية وأمنية متردية تضخ المزيد من العاطلين بصفة يومية، لا يتصور عاقل أن يمر خبر التعيين من دون رد فعل يتراوح بين الغضب والدهشة، وبالطبع التبرير. التبرير الشعبي من جانب محبي «الجماعة» اذ يبذلون جهوداً عنكبوتية حثيثة لتأكيد أن «من حق ابن الرئيس أن يشغل وظيفة طالما نجح في اختباراتها» وأن «أي مصري تتوافر له فرصة مساعدة ابنه في الحصول على وظيفة سيفعل ذلك. (...) والمشككون في نزاهة التعيين هم المشكوكون»! إلى هنا تبدو مهمة «المبرراتية» (محترفي التبرير) عادية، لكن ما لم يكن عادياً، أو ما لم يستقبله المشككون بطريقة عادية هو تبرير وزير الطيران المدني المهندس وائل المعداوي الذي أعرب عن اندهاشه مما يدور من تلميحات شعبية عن وجود شبهة مجاملة في تعيين نجل الرئيس في وظيفة في الشركة القابضة للمطارات والملاحة الجوية، لا سيما أنه (نجل الرئيس) اجتاز اختبارات التعيين، وأثبت تفوقاً في اللغة الإنكليزية والحاسب الآلي! ليس هذا فحسب، بل اعتبر الوزير تقدم نجل الرئيس للوظيفة – على نحو ما ورد على لسانه في جريدة «المصري اليوم» - نقطة تحسب له وليس عليه نظراً لوجود وظائف أفضل منها بكثير وأعلى دخلاً. وعلى رغم أن بيع البطاطا الحلوة ليس من المهن الأعلى دخلاً ولا الأفضل، إلا أنها مهنة كثيرين ممن ضنت عليهم الحياة بعيشة كريمة فيها من العيش والحرية والعدالة الاجتماعية ما يقيهم مغبة التجوال ليلاً ونهاراً بعربة بطاطا. أحد أولئك الكثيرين عمر آخر، الذي باتت مصر تعرفه ب «عمر بتاع البطاطا»، وهو ابن ال13 الذي دأب على بيع البطاطا في ميدان التحرير على مدى شهور، إلى أن عثر على جثته مقتولاً بالرصاص، الذي قيل بعدها إنه خرج على سبيل الخطأ من بندقية أحد جنود التأمين في محيط السفارة الأميركية في حي غاردن سيتي المتاخم لميدان التحرير. ولأن مطار القاهرة الدولي، حيث عمل نجل الرئيس، ليس متاخماً للتحرير، لا جغرافياً ولا رمزياً، فقد وجد كثيرون في التزامن القدري بين حدثي «العمرين» إسقاطات ثورية وتشبيهات رمزية ومصادر غضب شعبية! فبين مطالب: «عمر يعيّن، وعمر يموت، مصر الآن تحتاج إلى عدل عمر (بن الخطاب)»، ومتعجب «اسمه عمر، باع البطاطا للثوار، فأحبوه والتصق بهم. اسمه عمر، ابن الرئيس، تعيّن في وظيفة بسرعة البرق، فغضبوا من والده وانفصلوا عنه» إلى مؤكد أن «الرئيس مرسي يتحمل مسؤولية مقتل عمر ليس لأن ابنه عمر تعيّن في وظيفة مرموقة، ولكن لأنه ترك عمر يبيع البطاطا وهو ابن ال13 عاماً». الجنازة الشعبية التي دعا نشطاء إلى تنظيمها للطفل الصغير اليوم في ميدان التحرير، مسقط رأس الثورة وعربة البطاطا وعمر، لن يحضرها مسؤولون، ولن يسارع وزراء للإدلاء بتصريحات عنها، ولن يشير أحد من قريب أو بعيد إلى معرفة الصغير بالإنكليزية أو إلمامه بالحاسب الآلي، لكنها ستضيف اسماً جديداً في أذهان المصريين. كذلك الحال لقصة تعيين نجل الرئيس التي ستضيف هي الأخرى جديداً في باطنه قديم في أذهانهم أيضاً. ويبدو أن القدر متفرغ هذه الساعات لمصر وأهلها، فبينما يبكي كثيرون «على» عمر الذي يجول مثله ملايين من الأطفال في شوارع مصر من دون غطاء ثوري أو حتى إنساني، ويبكون «بسبب» عمر الذي ألّب عليهم مواجع محسوبية ظنوا أنهم ودعوها بالأمس القريب، يبكون «من أجل» عمر ثالث، لكنه هذه المرة عمر أحمد مرسي رسام الغرافيتي ومن ألتراس «الإسماعيلي» الذي يرقد في مستشفي الهلال بين الحياة والموت مصاباً بطلق ناري في الرأس. المؤكد حالياً أن رأس مصر يؤلمها!