بين «العورة» و «الثورة»، وبين تأكيد أن من تشارك في الثورة ما هي إلا طالبة اغتصاب والبرهنة على أن من تشارك ما هي إلا طالبة حرية، وبين مليونيات «الشعب يريد تطبيق شرع الله» و «الشريعة والشرعية» و «الشرعية والشريعة» ومليونيات «الشعب يريد عيش وحرية وعدالة اجتماعية» و «الخلاص» و «الكرامة أو الرحيل»، تقف نساء مصر خطاً فاصلاً يعتبره البعض أخضر ينبغي اجتياحه، ويعتبره آخرون من النوع الأحمر الذي تتوقف عنده محاولات «الأخونة» وجهود «السلفنة» وفعاليات «اللبرنة» (من الليبرالية). مرحلة الإعداد والتجهيز لجمعة «الكرامة أو الرحيل» لم تقتصر فقط على كنس الميدان ونصب المنصات وتعليق اللافتات وتنظيم المسيرات من جهة، وإعلان «جمعة الخير» حيث استمرار بيع الشاي والسكر والزيت الحكومي بأسعار في متناول اليد والعودة إلى زرع الأشجار والاستقرار والعجلة التي ينبغي أن تدور، بل تشمل كذلك جهوداً عاتية لترهيب نساء مصر وفتياتها خوفاً ورعباً من مشاركتهن لأن ظهورهن قد يعني أن مصر دولة مدنية متحضرة طبيعية تشتمل على سواعد ذكورية وأخرى نسوية، وهو ما يهدم خطة الدولة الدينية. وبينما الرجل الجليل المظهر ذو العمر المهيب والصوت الرهيب يؤكد أن من تنزل ميدان التحرير هي باحثة عن الاغتصاب ومن يعلو صوتها بحديث خشن عن حقوق وحريات فقد تخلت عن أنوثتها ومؤكد أنها إما أرملة أو مطلقة أو لا رجل «يلمها» وتخشاه، إذ بإعلانات مثيرة جذابة أسفل لحيته الطويلة عن «عشبة العنزة» و «نبتة الخصوبة» التي هي «الحل الأمثل للانتصاب السريع والعلاج الأفضل لسرعة القذف». قذف السيدات والفتيات من قائدات السيارات أعلى كوبري (جسر) 6 أكتوبر صباح أول من أمس ببقايا السجائر وأكياس البطاطا الفارغة وما تيسر من مناديل ورقية، إضافة إلى تشكيلة منتقاة من الشتائم ذات الإيحاءات الجنسية والإسقاطات المتعلقة ب «المشي البطال» و «السمعة النجسة» ربما أغضب بعضهم وأثار حفيظة آخرين، لكن طرفاً ثالثاً من أبطال المشهد، وهو مجموعة من المجندين في باص ضخم، كان يرى في المشهد كثيراً من السعادة وتحقيق الذات التي ينفخ فيها الداعية عبر القناة الدينية التي تعد مشاهديها بقيادتهم إلى الجنة. ذات المشهد بات سمة من سمات الحياة في مصر بعد عامين من الثورة، وهو المشهد الذي يتصاعد ويتضخم مع اقتراب كل «جمعة» غير قندهارية تقدم مصلحة الوطن. مصلحة الوطن يربطها بعضهم بضرورة أن تلتزم المرأة بيتها حتى لا تكون عرضة للسؤال الكلاسيكي الاستنكاري: «ايه اللي نزلها الميدان؟»، أو التنديد الثوري بترصد التظاهرات والفعاليات غير «الإخوانية» وغير السلفية من خلال حفلات التحرش الجماعي المنظم الممنهج. منهجة التحرش بالمتظاهرات والناشطات في الميدان هي أحدث مقومات الضرب تحت الحزام الموجهة إلى القوى غير المتأسلمة. نظرية المؤامرة عاشت أزهى عصورها في الساعات السابقة ل «جمعة الكرامة» أو «الرحيل»، فبين اتهامات مباشرة للجماعة الحاكمة وغير مباشرة لمن يجامل الجماعة الحاكمة بإبعاد العنصر النسائي عن فعاليات الغضب الشعبي، تعالت الاتهامات المتبادلة بين الأطراف المتصارعة من دون هوادة. فمن داعية يقول في برنامجه التلفزيوني بالنص: «تسع أعشار اللاتي تم اغتصابهن صليبيات والباقيات عرايا وسافرات وأرامل رايحين علشان يُغتصبوا»، إلى ناشطة ضد التحرش تجاهر بضرورة استخدام صاعق كهربائي لإبعاد المتحرش، إلى حكومة تغض البصر والسمع واللسان والمسؤولية عن التحرش الممنهج بنساء مصر، إلى رئيس وزراء يقول إن نساء بني سويف يغتصبن في الحقول نظراً الى عدم وجود صرف صحي، إلى إسلاميين يرون في جهود شبابية لحماية النساء من التحرش «متاجرة بأعراض البنات بهدف الحشد»، إلى سيدات وفتيات كتبن شهاداتهن عن تعرضهن للتحرش وفيها ما يندى له الجبين، بات التحرش في مصر أداة سياسية، ووسيلة ضغط، وأمراً قابلاً للتبرير. و «المبرراتية» هم فريق كبير فاعل وناشط مهمته تبرير ما لا ينبغي أن يُبرر ومنطقة ما لا يصح أن يتمنطق. منطق التحرش المنظم الممنهج رفضته القيادية في حزب «الحرية والعدالة» عزة الجرف، مؤكدة رفضها الاتهام الموجه إلى جماعتها وحزبها بتحريض مجموعات من البلطجية على التحرش والاعتداء على المتظاهرات، ومعيدة كرة الاتهام مجدداً في ملعب الجهات الداعية والمنظمة للتظاهرات، والتي لم تأخذ إجراءات تأمين وحماية كافية. وبررت الجرف، التي كانت حملت النساء مسؤولية التحرش الجنسي حين كانت نائباً في البرلمان المنحل، عدم إدانة الحزب لحوادث التحرش الأخيرة بقولها: «لن نخصص متحدثين إعلاميين للحديث عن موضوع التحرش، فهو جريمة مرفوضة ومدانة من الأصل بحكم التزامنا الديني والأخلاقي». ورغم التزام الجماعة وحزبها والرئيس الدين والأخلاق، إلا أن «منظمة العفو الدولية» لم تلتفت كثيراً إلى هذا الالتزام المعلن والمظهري، ودعت الرئيس الى «اتخاذ اجراءات حاسمة» تكفل إنهاء التحرش بالمرأة في مصر و «اتخاذ خطوات حاسمة لوضع حد لانتشار ظاهرة الإفلات من العقاب والتمييز القائم على النوع الاجتماعي، كما أن الوقت حان كي يتصدى الساسة لهذا الأمر علناً». لكن العلنية الوحيدة المتاحة في هذا الشأن تبقى مقتصرة على الفضاءين التلفزيوني غير المتأخون والعنكبوتي، فمن مطالب بعودة «التحرش اللطيف بتاع زمان» إلى رافع شعار «التحرش إرادة شعب» إلى مستبشر بأن الراغب في التحرش لم يعد في حاجة إلى ركوب الباص المزدحم بعدما وفرت الدولة التحرش للجميع من دون محاسبة بل مصحوباً بمباركة. وأخيراً حذر بعضهم من أن تنقلب «جمعة الكرامة أو الرحيل» أمس إلى جمعة تخيير المصريات بين أن يخترن كرامتهن ويلتزمن بيوتهن أو يرحلن عن الميدان لأن الثورة انتهت. وتظل التغريدة الأكثر سوداوية لأنها الأكثر واقعية ما كتبته بسمة محمد: «التحرش أنواع، منه الجنسي، ومنه السياسي، ومنه الديني، والمهم في النهاية أن الكل يجتهد في إشباع رغباته بطريقة غير مشروعه»، فما بالك لو اجتمع الثلاثة في واحد؟