العمل التلفزيوني في مصر هذه الأيام يعطي صاحبه مميزات، ويضمن له مكاسب، ويخيّره بين نهايات مهنية متراوحة، فما إن فُتح الباب الفضائي أمام بعض المذيعين ليتحولوا من مقدمي برامج إلى ناشطين سياسيين وفاعلين ثوريين وفلول مموهين، تحولت بوصلة الاختلاف لتتجه تارة صوب الميدان، حيث يجد المذيع مريدين ومؤيدين، وتارة جهة القصر الرئاسي حيث ينال من الرضا الرسمي جانباً، وتارة صوب الشباب، حيث يكتشف في نفسه قائداً للصغار، وتارة أخرى صوب الكنبة، فيداعب أحلام القابعين في بيوتهم الحالمين بغد أفضل لا يأتي. ولأن هذه الاتجاهات كان يمكن غض الطرف المهني عنها بصفة استثنائية، غير أن استمرار اعتناق المذيع المذهب الثوري أو العقيدة المداهنة للحكم أو الجهود المستمرة لنيل المصالح الشخصية طيلة الوقت، أمر مرفوض، على الأقل مهنياً. وعلى رغم أن المذيع يظل مواطناً يتفاعل ويتأثر بالموقف المصري الملتبس والمحزن، إلا أن استمرار طغيان هذا الجانب على أدائه أمام الكاميرا يُحسب عليه، سواء كان محباً مؤيداً للنظام القائم أو كارهاً معارضاً له. ولكن يظل المذيع الناشط أو الفاعل أو المداهن قادراً على جني المكتسبات. فهو يزداد شهرة سياسية واجتماعية، بالإضافة إلى الشعبية الإعلامية التي يمنحها الظهور التلفزيوني، كما تضاف إلى سيرته الذاتية خبرات في قيادة الجماهير، وتغيير الرأي العام بالحشد أو الشحن أو التهدئة، فضلاً عن توسع شبكة علاقاته الاجتماعية، ومن ثم السياسية، ما قد يتيح له الترشح لبرلمان هنا أو الانضمام لجبهة هناك. وقد ينظر إليه مشاهدون باعتباره بطلاً قومياً مغواراً، أو أسطورة قومية جبارة، أو حتى مشروع زعيم يقود الأمة لغد أفضل، ولكن يظل هناك من يرى فيه عنصراً من عناصر تخريب الوطن، أو عاملاً من عوامل هدم الدولة، أو مقوماً من مقومات الانقلاب على الشرعية. ويبدو أن ترك خيار الانقلاب على الشرعية للشارع أو للشعب لم يعد موجوداً، فالشرعية باتت منتهكة على الشاشات المصرية. شرعية الصندوق منتهكة بالترويج لإطاحة الرئيس، وبتحميل الصندوق ما لا يحتمل. وشرعية المعارضة منتهكة بالترويج لفكرة أن المعارضة هي انقلاب على الشرعية، وأن كل من لا يردد ال «نعم» لكلمات السيد الرئيس وقرارات السيد الوزير وتغريدات نائب المرشد، إنما هو جزء من ثورة مضادة. اما الشرعية الإعلامية، فتظل منتهكة، لأن قواعد المهنية باتت كالفريضة الغائبة. بعضهم يبررها بأن المذيع ليس مجرد سارد للأسئلة، وبعضهم ينفيها عن نفسه مدعياً أن ما يقوله إنما هو تغطية واقعية ومعلوماتية للأحداث، وآخر يعترف بها، ولكنه يذيل اعترافه ب «الجمهور عاوز كده»! وبين هذا وذاك، يمكن القول إن العمل التلفزيوني في مصر مستمر في فتح أبواب الخيارات أمام المذيع، بما في ذلك خيارات نهاية المشوار الإعلامي، إذ قد تنتهي به الحال مؤسساً لحزب سياسي أو مرشحاً في برلمان منتخب أو محاضراً في مادة «ما لا ينبغي أن يكون في عالم التقديم التلفزيوني»، أو متقاعداً في البيت!