جرى العرف الرمضاني التلفزيوني أن تكون للشهر الفضيل محطة إجبارية تترجل فيها السياسة، ويتنحى الاقتصاد جانباً، وتلتقط الرياضة أنفاسها... والكل يفسح المجال لتتربع الدراما على عرش الشاشة الفضية، لا ينافسها فيها سوى برنامج حوار فني هنا يواجه هذه الفنانة بفضائحها تارة أو ينجح في تركيز الكاميرا على تدفق الدموع من عيون تلك الشخصية العامة أو يعلن تفوقه بمعركة حامية الوطيس بين ضيفين اختلفا على أيديولوجية الغناء الشعبي أو صدقية الأحضان السينمائية أو ما شابه. أما أن تتحول شاشة رمضان إلى معترك سياسي اقتصادي قضائي أيديولوجي فكري، فهو ما لم يخطر في بال أحد. البداية الرمضانية كانت سياسية ثورية بحتة. إذ استهل المصريون والعرب والعالم أجمع الشهر الكريم بالرئيس المصري السابق حسني مبارك وهو يطل عليهم عبر شاشات أجهزتهم التلفزيونية في نهار رمضاني حار وهو مستلق على فراش يفترض أنه فراش المرض من وراء القضبان. هذه الاستهلالة الرمضانية ضربت العرف الرمضاني الدرامي في مقتل، لا سيما أوائل رمضان، إذ لم يكن في إمكان المشاهد، ولا القائمين على أمر القنوات التلفزيونية، ولا حتى أبطال المسلسلات أنفسهم سوى الانغماس في المحاكمة الأسطورية وتوابعها من تحليلات وتفسيرات وتكهنات. هذه البداية الدرامية الخبرية الرمضانية غير المعتادة، نقلت دفة باب الرزق الموسمي الذي ينفتح على مصراعيه في هذا الشهر من كل عام من المسلسلات وبرامج الفنانين وفوازير المشاهير إلى برامج الحوار التي تحولت برمتها إلى جلسات محاكمة علنية لكل من تسول له نفسه أن يطل عبر الشاشة الفضية متحدثاً عن دوره السياسي قبل الثورة المصرية أو أثناءها أو بعدها. ولم يجمع الأشتات، سواء أولئك المصنفين تحت بند «فلول» النظام السابق أو «أذنابه» أو «الثوار» أو «المعارضة» أو حتى «الغالبية الصامتة»، إلا الوقوف أو بالأحرى الجلوس على مقعد المتهم. هذا المقعد أثبت أنه الباب الذهبي للعبور إلى خزانة ممولي الإعلانات الذين تنبهوا بسرعة وذكاء شديدين إلى البساط المنسحب من تحت أقدام المسلسلات والمفروش تحت أقدام مقعدي الضيف المتهم والمذيع المحقق. صحيح أن تحول دور المذيع من طرح الأسئلة ومحاورة الضيف بذكاء لا يعرف الحياد قدر الإمكان، إلى ما يشبه دور محقق النيابة شاع وانتشر تلفزيونياً في السنوات القليلة الماضية، إلا أنه وصل حد التوحش في رمضان 2011. وبصرف النظر عن مدى مهنية التحقيق مع الضيف، وتعريضه لكم مذهل من الضغط النفسي والعصبي مع تركيز الكاميرا على وجهه لإمتاع الجمهور بسلخه نفسياً وذهنياً وعصبياً، فإن ذلك العرض أسفر عن إحياء لسوق الإعلانات الذي خشي من ركوده وجموده في هذا العام بسبب الأزمة المالية الطاحنة والأزمة الثورية الأكثر طحناً. ولا بد من الإشارة إلى الإعلانات التي لم يأل القائمون عليها جهداً لصبغها بصبغة الثورات العربية، فخرجت هي الأخرى متوائمة تماماً مع الأجواء، بدءاً من «لنشون» و «مقانق» «من أنتم؟!» مروراً ببطاقات شحن «إلى الأمام»، وانتهاء بالسيراميك الذي يعتمد في إعلاناته على السخرية من انتشار البلطجية. بلطجة ويبدو أن ظاهرة البلطجة والانفلات الأمني أمدت عقول مبدعي العمل التلفزيوني الرمضاني بالكثير من الأفكار، لا سيما في الفن الرمضاني التلفزيوني الأصيل المعروف بالكاميرا الخفية. حفنة من البرامج المعتمدة على فكرة المقالب اتخذت البلطجة محوراً لها. فهذه مجموعة ممثلين يتظاهرون بأنهم يشيدون مبنى على أرض زراعية، وذلك المذيع يتظاهر بأنه بلطجي يسير مسلحاً بسكين من دون أن يتعرض له أحد، وهكذا. وإذا كان الغرض من مثل تلك البرامج هو تعرية الرأي العام الذي ربما يكون على مقدار غير كاف من الوعي بحجم الظاهرة الخطيرة وكيفية مواجهتها، فإن نوعاً آخر من برامج الكاميرا الخفية اعتمد هذا العام على استضافة البعض في استوديو وتوجيه أسئلة إليهم تفضح ضحالة ثقافتهم وقصر رؤيتهم لما يجري حولهم من أحداث. الأحداث التي فرضت نفسها على خريطة التلفزيون الرمضانية هذا العام فرضت أيضاً وجوهاً جديدة على المشاهد في بيته. هذه الوجوه لم تكتف بإطلالتها الثورية عبر برامج الحوار طيلة الشهور السبعة الماضية، أي منذ اندلاع ثورة يناير، بل أطلت عليهم تارة مرتدية ثوب الثائر، وتارة برداء المحلل السياسي، وتارة ثالثة بعباءة المفكر الاجتماعي، ورابعة على مقعد المذيع. ويمكن القول أن «ثورة أكاديمي» أخرجت عدداً لا بأس به من مذيعي الثورة الذين جاؤوا من كل صوب وحدب. فمنهم من جاء من أمام كاميرات التصوير السينمائي من صفوف النجوم، ومنهم من جاء من خلال التنظير السياسي للثورة، بل هناك من جاء من على منابر مساجد الخطب الثورية، أو من على منصة أشعار الثورة الملتهبة. وجلس الجميع على مقعد المذيع في رمضان لإضافة المزيد من حوارات الليبرالية والديموقراطية والمدنية والإسلامية والدينية والعلمانية التي صمّت آذان الجميع وأصابت حواسهم بتخمة فكرية وعصبية لا يخفف وطأتها سوى مسلسل هنا أو برنامج روحاني هناك. إلا أن الروحانيات لم تسلم هي أيضاً من الاجتياح الثوري. فخرجت البرامج الدينية تتنفس عبقاً ثورياً. وكان أبرزها برنامج الداعية الشاب معز مسعود صاحب برنامج «ثورة على النفس». ورغم أن الثورة المقصودة هنا هي ثورة نفسية لمساعدة النفوس على تقويمها ذاتياً، إلا أن شعوراً عاماً لدى كثر دفعهم إلى طلب فترة هدنة من حماسة الثورة وإيقاعها الذي أصابهم بحالة من الإعياء المشوبة بالإحباط . رغم الإحباط العام، إلا أنه لم يصل إلى حد أن يلقي المشاهد بنفسه في تهلكة عدد من المسلسلات التي يبدو أن القائمين عليها انشغلوا بالثورات العربية وأحداثها، فخرجت أعمالهم مفتقدة أدنى قواعد العمل الدرامي الجيد وبديهياته. ارهاصات الثورة جودة من نوع آخر ظهرت واضحة في هذا الشهر، رغم أنها لم تكن على الخريطة الرمضانية لولا إرهاصات الثورة: برنامج «حكومة شو» الذي يسخر من كل رموز الحكومة التي سقطت بسقوط النظام المصري، في حلقات كوميدية للفنان محمود عزب الذي برع في تقمص أدوار الوزراء ورجال السياسة والأعمال بعدما منع عرضه لأسباب رقابية. لكن الثورة أتت بما لم يشته النظام السابق ليعرض البرنامج طيلة الشهر على إحدى شاشات التلفزيون الرسمي! ولأن الشاشات باتت متداخلة إلى حد التشابك، شهد رمضان انتقالاً متفرداً لطبيب اسمه باسم يوسف، خلق لنفسه جمهوراً افتراضياً عبر أفلام «يو تيوب» إلى شاشة تلفزيونية عبر برنامج يومي. هذه الأفلام كان دأب على تصويرها وتحميلها على الشبكة العنكبوتية والتي تندرج تحت بند سخرية لاذعة تدعمها براهين وأدلة ممثلة في مقاطع من برامج وتصريحات منسوبة إلى الأشخاص الذين يسخر منهم، ومن شأنها أن تدحض حجج من ينكرون أو ينفون ما قالوه مسبقاً. وقد حققت نسب مشاهدة، تعد سابقة، بلغت في بعض الحلقات ما يزيد على خمسة ملايين مشاهدة. الأكيد أن رمضان 2011 كان تلفزيونياً باقتدار شأنه شأن رمضان عبر عشرات السنوات، لكنه تلفزيون مختلف كل الاختلاف.