ترفع الشاشات المصرية شعار «سمك لبن تمر هندي» بإصرار وحماسة، وأحياناً بعنجهية. أبجديات العمل الإعلامي تحتم على المشتغل به ألا يجاهر بانتماءاته وميوله السياسية، خصوصاً في أوقات الاختيار الشعبي المتمثلة بالانتخابات. لكن ما حدث طيلة الأسابيع القليلة الماضية كان العكس تماماً. انحياز واضح كان سمة عدد من نجوم ال «توك شو» تجاه تيارات سياسية على حساب أخرى. ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، ارتقى أولئك أعلى سلّم الانحياز، وباتوا يؤيدون ويدعمون ويهللون لمرشحيهم المفضلين جهاراً. في الوقت ذاته، ساوى أولئك بين كم الحماسة الموجهة إلى تأييد مرشح والكم الموجه إلى إسقاط آخر! وكما دفعت إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة الفريق أحمد شفيق، حين كان رئيساً للوزراء قبل شهور دفعاً إلى الاستقالة، عبر تجهيز مكمن هجومي له باستضافة أعتى معارضيه ليواجه اتهاماتهم – وأحياناً تطاولهم عليه، استعد عدد من القنوات للانتخابات عبر تجهيز جيوش الضيوف المعروفة انتماءاتهم الفكرية أو حتى نوعية الموجة التي امتطوها عقب الثورة. هذه القنوات التي تحب أن تصنف نفسها تحت بند «الثورية» رفعت كل ما يمكن رفعه من شعارات ثورية، حتى بعد انفضاض كثيرين من المصريين بعيداً من الثورة، ليس لأنهم باعوها أو خانوها، ولكن بسبب أخطاء ارتكبت حيناً، ولسوء إدارة الفترة الانتقالية أحياناً. وليس مبالغة لو قلنا إن البرامج التي تبثها هذه القنوات كثيراً ما كانت تتحول إلى أوركسترا متناغمة تعزف على أوتار واحدة هي: مهاجمة المجلس العسكري التي تحولت في ما بعد إلى مهاجمة المؤسسة العسكرية ككل، ومنها إلى الأداء الحكومي، ثم البرلماني، ومنهما إلى أداء الشعب، بخاصة الفئات المنتمية إلى «الغالبية الصامتة»، حتى أن بعض الضيوف كان ينعت الصامتين الرافضين النزول إلى المليونيات بالبلادة والجهل. وإذا كان رأي الضيوف لا يعبر بالضرورة عن القناة التلفزيونية، فإن المعايير المهنية تحتم وجود نوع من التوازن بين الآراء حتى لا يبدو البرنامج وكأنه ترويج لاتجاه فكري معين دون آخر. لكنّ ما زاد الطين بلة هو تضامن المذيعين والمذيعات مع الضيوف بشكل مباشر حيناً وغير مباشر أحياناً. سابقة خطوة غريبة تعدّ سابقة أقدمت عليها المذيعة في قناة «أون تي في» ريم ماجد التي تقدم برنامج «بلدنا بالمصري»، اذ أعلنت في مقال أنها قررت دخول إجازة الى حين الانتهاء من جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة، لعدم قدرتها على تحقيق التوازن بين ضميرها المهني وضميرها الإنساني. كتبت: «أياً كان الرئيس المقبل من بين هذين الإثنين، وما دام سيأتي بشرعية الصندوق وباسم الديموقراطية، فباسم الديموقراطية سأكون في معسكر المعارضة وسأمارس حقي المنصوص عليه والمكفول في المعارضة. أما الرئيس الذي سيعتبر معارضته خروجاً عن الشرعية أو اللياقة أو الأدب أو الأخلاق أو الرئيس الذي سيعتبر معارضته خروجاً عن الدين والملة ومخالفة لشرع الله، فلا يلومن إلا نفسه»! لكنّ هناك من القنوات ما اعتبرت نفسها ممثلة لشرع الله، وكل ما عداها فهو مخالف بالضرورة. الطريف أن الاتهامات الموجهة إلى تلك القنوات بالتحيز لم تقابل من التيارات الإسلامية إلا بإلقاء تهم الليبرالية والعلمانية في ملعب القنوات الأخرى، سواء الخاصة أم الحكومية. لكن حال القنوات الحكومية طيلة وقت الانتخابات لم تكن أفضل كثيراً! وكان التأرجح بين المرشحين الخمسة الأبرز، سمة برامج الحوارات التي حاول مذيعوها قدر الإمكان التزام الحياد تجاه برامجهم والتيارات التي يمثلونها. إلا أن السقطات الكبرى كانت من نصيب قنوات خاصة فتحت الأبواب أمام النيل من مرشحين على حساب آخرين. ويمكن القول إن أحد أبرز هذه الأمثلة قدمه الإعلامي محمود سعد الذي اعلن غير مرة أنه ضد ترشح أحمد شفيق للرئاسة، باعتباره أحد أضلع النظام السابق، وأنه سيعيد إنتاجه. ولما كان تبرير صعود نجم شفيق ليس من مهمات الإعلامي، خرج سعد في فاصل إعلاني ولم يعد إلا في اليوم التالي بعد اتصالات هاتفية مع إدارة قناة «النهار». وحين عاد ظهر مجدداً ليؤكد معارضته لشفيق، معلناً أن العمل التلفزيوني لا يعني التخلي عن الانتماءات الفكرية والسياسية! وهكذا ابت أول انتخابات رئاسية حقيقية يشهدها المصريون ويشاركون فيها بكثافة، أن تمضي من دون أن تكتب قنوات تلفزيونية أسماءها هي الأخرى في لائحة الشرف. اذ شارك عدد من القنوات في لعب دور رقابي على سريان الانتخابات وقت حدوثها. ورصد مركز «أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف» عدداً من الانتهاكات والخروق التي حدثت في بعض اللجان لمصلحة عدد من المرشحين. «أون تي في» مثلاً رصدت مشادات بين أنصار عبدالمنعم أبو الفتوح وشفيق عقب اتهام أنصار الأول انصار الثاني بأنهم « فلول وحزب وطني». كما رصدت تسخير وسائل نقل «توك توك وباصات» لنقل الناخبين ليصوتوا لمرشح بعينه. ورصدت قناة «الحياة» توزيع حملة مرسي بطاقات شحن هواتف محمولة على الناخبين. اما «المحور» فرصدت إغلاق لجنة بسبب أداء القاضي المسؤول عنها صلاة الظهر. ولعلها من المرات النادرة التي يصبح فيها التلفزيون الرسمي ضالعاً بمهمة رقابية، إذ رصدت قناة «النيل للأخبار» انتهاكات من قبل حملات موسى وأبو الفتوح ومرسي أمام اللجان في أسيوط وتوزيع البرامج وتوفير وسائل نقل جماعي. ولا يمكن تقويم الأداء التلفزيوني المصاحب للانتخابات الرئاسية من دون الإشارة إلى المناظرة التاريخية التي قدمت عمرو موسى وعبدالمنعم أبو الفتوح ليس كمرشحين متنافسين، بل كرجلين متناحرين، وهي المناظرة التي ينسب إليها «الفضل» أو «السبب» في الإطاحة بكليهما! وبقيت جولة إعلامية واحدة وهي الاستعداد للإعادة! وبعدها سيكون على القنوات إعادة ترتيب الأوراق وتقويم الأداء والمحاسبة، انتظاراً للرئيس المقبل ورؤيته في ما يختص بالإعلام، وهي الرؤية التي قد تنتج منها إما إعادة ترتيب للساحة الإعلامية الملتبسة، وإما إغلاق وخنق لكل ما يمكن من أصوات لا توائم الفصيل السياسي المسيطر على الساحة، أو استمرار للوضع على ما هو عليه، ما قد يعني ثورة... إعلامية مقبلة!