سيُقال الكثير عن اجتياح جماعة الحوثي صنعاء وسيطرتها على معظم مؤسسات الدولة بعدما انهارت الأجهزة الأمنية وسلمت أسلحتها ومقارها من دون مقاومة تذكر. وبغض النظر عن حقيقة ما جرى وما إذا كان مؤامرة أو مهادنة أو انقلاباً، فإن الاجتياح الحوثي صنعاءَ قد حرف عملية التحول الديموقراطي عن مسارها، وأنهى الطبيعة السلمية للثورة اليمنية وقوض أسس الشراكة السياسية التي اتسعت لجميع ألوان الطيف السياسي اليمني، ولربما يكون قد وضع اليمن في مسار جديد يتسم بالعنف والتطرف. وإن لم يتمّ احتواؤه فقد يُغرق البلاد في الفوضى والحروب والتشرذم. يتفق الكثيرون على أن الحوثيين تعرضوا لمظالم تاريخية متعددة وخيضت حروب ضدهم اعتذرت عنها لاحقاً الحكومة الانتقالية. وهم بلا شكّ أصحاب حقّ كأي تنظيم سياسي يمني آخر في المشاركة السياسية والتمثيل السياسي في مؤسسات الدولة المختلفة. وكذلك، فإن المطالب التي رفعوها كعنوان لحركتهم الاحتجاجية الأخيرة شرعية وتعبر عن طموحات الشعب اليمني، مثل تغيير الحكومة الانتقالية وخفض أسعار الوقود وتطبيق مقررات الحوار الوطني. ولكن، على رغم شرعية المطالب، فإن الطريقة التي استخدمت للتعبير عن هذه المطالب وتحقيقها – اجتياح صنعاء - تفتقر إلى روح الشرعية. العوامل التي أوصلت اليمن إلى هذه الحال كثيرة، على رأسها الأداء الضعيف للحكومة الانتقالية، وتركيز الدولة على تحقيق مطالب المجموعة الدولية المتمثلة بالإصلاحات الأمنية ومحاربة الإرهاب أكثر من تركيزها على تلبية الاحتياجات للشعب اليمني، مثل توفير المياه والكهرباء وفرص العمل وغيرها، والأجندة الغامضة لجماعة الحوثيين حيث لا يعلم كثر من اليمنيين وربما قسم كبير من الحوثيين أنفسهم ماذا تريد الجماعة على وجه التحديد، فالمطالب التي تمّ رفعها عنواناً لحركة الاحتجاج الأخيرة هي جميعها شرعية ولا تستدعي الحشد والاجتياح العسكري. الاجتياح الحوثي لصنعاء له مضامين كثيرة، أخطرها أنه سحق نموذج التحول الديموقراطي الفتي الذي بدأ يتبلور منذ خروج المجموعة الأولى من الشباب اليمني إلى ساحة التغيير في بداية 2011، كما عمل على حرف الثورة التي تباهى بها اليمنيون – وهم على حقّ – عن طبيعتها السلمية وعن تجسيدها مبدأ «الحكمة اليمانية» وعليه، فقد أرسى الاجتياح قواعد جديدة تقوم على التفرد والهيمنة والإقصاء، وبالتالي خلق مظلة جديدة للحوار أو توقيع الاتفاقيات وهي البندقية. فتوقيع اتفاقية لا تتضمن الانسحاب من صنعاء والجوف وعمران وتسليم الأسلحة الثقيلة هي وثيقة «استسلام» لا «سلام». أظهر الاجتياح إفلاس المجموعة الدولية من جهة، واهتمامها في بأجنداتها و مشاريعها الخاصة وإن على حساب الشعب اليمني. قفد أصدر مجلس الأمن بيانه الأخير قبل أسابيع من الاجتياح وحذر بالاسم الحوثيين من مغبة التصعيد، لكن الآخرين ضربوا عرض الحائط كل ما صدر عن مجلس الأمن الذي عجز عن متابعة تهديده. وعوضاً عن ذلك قام بمباركة وثيقة «الاستسلام» التي أعقبت الاجتياح. ومن جهة أخرى ركزت الولاياتالمتحدة جل اهتمامها في اليمن فقط على ما تسميه محاربة الإرهاب، وعلى الإصلاحات الأمنية التي تخدم هذا الغرض، وعملت معها الحكومة الانتقالية على تحقيق هذا الهدف أكثر من اهتمامها بتحقيق المطالب الأساسية لليمنيين مثل توفير الكهرباء وفرص العمل للمواطنين. فاهتمام الولاياتالمتحدة بالكيفية التي يمكن اليمن فيها المساهمة في الحرب على «داعش» تفوق بدرجات مساعدة الحكومة اليمنية في إحداث تنمية حقيقية تساعد في إنجاح عملية التحول الديموقراطي السلمي. وعمل الاجتياح، وبالتحديد إن تحولت سيطرة الحوثيين على الدولة إلى حال ثابتة، على التأثير بموازين القوى في الجزيرة العربية، حيث إن وجود حوثي يتساوق برنامجه السياسي مع السياسة الخارجية لطهران سيلقي بظلاله على العلاقات السعودية - الإيرانية ككل. وشكل اجتياح صنعاء نكسة جديدة لمشروع الإسلام السياسي الذي تبلور بعد الربيع العربي وتبوأ فيه «الإخوان المسلمون» ركناً أساسياً. فإضافة إلى خسارة «الإخوان» في مصر وإلى حد معين في ليبيا ها هو حزب الإصلاح اليمني يضاف إلى قائمة المطاردين والمستهدفين من السلطات الحاكمة في بلادهم. واحتمالات ارتفاع وتيرة العنف بل تحول اليمن إلى دولة فاشلة ومفككة ومصدرة للتطرف قد أصبحت أكبر من أي فترة خلت، فممارسات الحوثيين بعد الاستيلاء على صنعاء كرفضهم التوقيع على القسم الأمني من الاتفاقية والاستيلاء على أسلحة ثقيلة، لا تبشر بنهج تصالحي يضم مكونات النسيج السياسي اليمني. إن بقاء عناصر الإصلاح في حال تشتت وهروب لن يستمر طويلاً، فقد يدفع هذا الاستهداف إلى تحولهم إلى نهج العنف والتطرف ومقاومة المد الحوثي. وهنا يدور الحديث عن شريحة واسعة حيث يملك حزب الإصلاح تمثيلاً واسعاً داخل المجتمع اليمني. كما لا يغيب عن الذهن أن أحد ألد أعداء الحوثيين هو تنظيم «القاعدة» الذي أعلن الحرب على جماعة الحوثي في صنعاء بعد أيام فقط من الاجتياح. وقد تشكل حال الشلل والإحباط السياسي العامل الثالث الذي يدفع الكثير من اليمنيين غير المؤطرين في أي تنظيم سياسي للالتحاق بركب العنف أيضاً. ولا ننسى ازدياد حدة النزعة الانفصالية لدى الجنوبيين الذين يرون مشكلة الحوثيين مع صنعاء هي مشكلة شمالية بامتياز، ولا يعني ذلك بالضرورة أن عليهم دفع ثمن هذه المشكلة. ولتحاشي الوقوع في أي من هذه السيناريوات، فإن الفرصة الآن مواتية من أجل أخذ دفة النزاع باتجاه آخر. وعادة يكون الحوار الوطني الشامل الممثل للتركيبة السياسية هو السبيل الأفضل لتجنب العنف، لكن وللأسف، فإن فرص نجاح حوار وطني ضمن المعطيات الحالية تبدو ضعيفة للغاية، إذ إن الحوار لا يجرى حتى تحت سقف «البندقية الحوثية»، بل إن أحد أهم مؤهلات نجاح الحوار الوطني هو الاتفاق على مبدأ العمل ضمن الشراكة السياسية لجميع الأحزاب، وهنا أيضاً لم يترك الحوثيون مجالاً للشراكة حيث استبدلوا الحوار الوطني الذي كانوا جزءاً منه إلى هيمنة سياسية وإقصاء وملاحقة الأخرين. كذلك، فإن من أهم شروط نجاح أي حوار وطني أو تفاوضي هو وجود توازن إلى حد معين في القوى ما بين الأطراف، وعملية الاستيلاء على صنعاء قد أخلّت وفي شكل سافر في موازين القوى بين أطراف العملية السياسية في اليمن. وعليه، فإن الحل الأمثل للخروج باليمن من الأزمة التي تعايشها الآن هو استئناف الثورة السلمية الشبابية التي أطاحت الرئيس السابق، والتي توقفت مع توقيع المبادرة الخليجية. تلك الثورة التي عدلت موازين القوى المختلة آنذاك ومهدت الطريق لجلوس أطراف العملية السياسية إلى طاولة الحوار الوطني كشركاء سياسيين، يتساوى فيها دور المرأة مع دور شيخ القبيلة الذي استحوذ تاريخياً على صناعة القرار ضمن السياق الاجتماعي الخاص به. اجتياح صنعاء - الذي يسميه البعض انقلاباً حوثياً على الشرعية - قوض أسس الشراكة وأسس لعلاقة جديدة بين منتصر ومهزوم يدور الحوار بينهما تحت ظل البندقية كما أراد لها الحوثيون. كما أن استئناف الثورة السلمبة سيقطع الطريق على العنف الذي قد يلجأ إليه الأطراف الآخرون لمقاومة المد الحوثي. إن إعادة تفعيل ساحة التغيير في صنعاء هي التي ستحمي اليمن من النقيضين، الهيمنة والتفرد من جهة والعنف والتطرف من جهة أخرى. وعلى اليمنيين أن يدركوا أن المجموعة الدولية أو ما يسمى مجموعة العشر ليس لديها حلول أو استراتيجيات، وإن وجدت فإنها تأخذ في الاعتبار مصالح الدول الكبرى أولاً كمحاربة إرهاب ومباركة وثيقة استسلام، يمكنها أن تحقق استقراراً سلبياً قد يدفع ثمنها المواطن اليمني في النهاية. فقط اليمنيون أنفسهم هم من يستطيع تغيير الواقع، وليس مجموعة العشر أو ممثل الأممالمتحدة الذي أشرف على توقيع اتفاقية صنعاء التي قد تكون أعطت شرعية للسلاح الحوثي الثقيل. ساحة التغيير يمكنها أن تشكل العنوان للغالبية اليمنية الصامتة التي يمكنها خلق خيار ثالث غير الخيارين الحاليين المتمثلين بالهيمنة الحوثية وعنف «القاعدة» وغيرها. إن أخطر ما يمكن أن يواجه اليمن هو الرد بالعنف والتطرف على اجتياح صنعاء، فالدخول في دوامة العنف قد يؤدي فعلاً إلى شلال دماء وتفكك للبلاد. فقط ساحة التغيير السلمية التي يمكنها إعادة عملية التحول الديموقراطي إلى مسارها، واليمنيون هم فقط من يستطيعون حماية إنجازات ثورتهم السلمية التي لطالما تباهوا بها وبكل جدارة. * أستاذ النزاعات الدولية في جامعة جورجتاون وزميل السياسات الخارجية في معهد بروكينغز في الدوحة