في عالمينا العربي والإسلامي، المنهج مختلف، والدعوات لعقد الاجتماعات والمؤتمرات والقمم مرتبكة وغير منتظمة، تُفتح ملفات مثقلة بالقضايا الجامدة أو المُجمّدة لإعداد جداول الأعمال، فلا يجد الأمناء العامون للمنظمات من الإنجازات ما يسرهم الإشارة إليه؛ حراك الدوران للخلف، والجمود والفرقة، وتراكم للقضايا والمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ تصيبهم الحيرة من أين يبدؤون، وعلى كثافة المصاعب كيف يتغلبون؟ تأتي الفرجة من لغة الضاد، أمامكم يا جهابذة اللغة، ما يزيد على 20 مليون كلمة، إنها الملجأ والمخرج من تيه الواقع المرير إلى حبر وأوراق وثقافة ظاهرة صوتية ستظل حاضرة بقوة. أصور لكم من خيال الواقع المترهل، حواراً بين شاب مصري جلس بجانب والده الذي تجاوز عقده السابع، يتابعان وقائع افتتاح الدورة ال12 لقمة منظمة التعاون الإسلامي التي عقدت في القاهرة؛ طلب الأب من ابنه الصمت والمتابعة، فالمرحلة التي يعيشها العالم الإسلامي دقيقة وحساسة، وعبّر لابنه عن آماله وشغفه أن يرى مرحلة أقل حساسية وخطورة قبل الرحيل عن الحياة! انطلقت أصوات الخطب، وتسلم الرئيس الخلف من الرئيس السلف رئاسة دورة المنظمة، بعد خطابين تكرر مضمون ما ورد بهما على مسامع الأب 12 دورة، والاختلاف كان في ازدياد بؤر الصراع والتوتر التي اجتاحت تخوم العالم الإسلامي! صدع الابن بالسؤال؛ ألا ترى يا أبتِ أن ما سمعناه رصد لأحداث وأخبار نسمعها في وسائل الإعلام كل يوم؟ أجابه والده بصوت متهدج بالحزن، أصبر يا بني فلا يزال للخُطب بقية، وبعد مرور ساعة، سأل الابن، هل سمعت شيئاً يُنبئ بالتفاؤل يا أبتاه؟ قُلت لك يا بُني إنك لن تستطيع معي صبراً، أنا أعيش حال مقارنة بين ما سمعته قبل 50 عاماً وما أسمعه الآن، لا تقطع عليّ حبل المتابعة والتفكير! وبعد مضي ساعتين على كلمات رؤساء الوفود، قال الابن: أعتقد أن الأمور اتضحت إليك يا أبتِ، أليس كذلك؟ ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، أنتم جيل لا تُعيرون للصبر أي اهتمام؟ سأصبر يا أبت وإن سألتك عن شيء بعدها فلك حق الخلوة بنفسك! وبعد مضي أربع ساعات من إلقاء الخطب العصماء، واحمرار أكف الحاضرين بالتصفيق، جرّ التهور لسان الشاب فقال: 240 دقيقة في حضرة صوت وصورة من دون نتيجة! التفت الأب لابنه شاخصاً البصر نحوه، وقال: سأخبرك بما لم تسطع عليه صبراً. أما الخطبتان الأولى والثانية، فأمر لازم ضمن الإطار البروتوكولي لمؤتمرات القمة، الخلف يتسلم القيادة من السلف. تداخل الابن؛ يتسلم ماذا، إنجازات على أرض الواقع، أم مزيد من التعقيدات والمشكلات؟ وهل تعتقد يا أبت أن الرئيس محمد مرسي، الذي يواجه تحديات داخلية صعبة وخطرة، قادر على قيادة أو رئاسة منظمة تجمع 57 دولة وألف مشكلة؟ هو لا يستطيع في الوقت الحاضر تنفيذ برنامجه للزيارات الخارجية بسبب الأوضاع الداخلية، فكيف له متابعة قضايا مرحلة حساسة وخطرة، كما قال زعماء العالم الإسلامي في خطبهم قبل قليل؟ انظر يا أبت إلى المشهد التلفزيوني، انتقلت الصورة إلى مطار القاهرة الدولي، معظم رؤساء الوفود يغادرون القاهرة، هل نشب الخلاف بينهم، هل فشل المؤتمر؟ هدئ من روعك، المشهد تكرر في السنوات الأخيرة في مؤتمرات القمة العربية، وانتقلت العدوى إلى الإسلامية، كان الملوك والرؤساء في الماضي يقضون ثلاثة أيام، ملتزمين بحضور تفاصيل أجندات المؤتمرات، على رغم أن مشكلات العالم الإسلامي وقضاياه كانت أقل في حجمها وتأثيرها، والذي لم أجد له تفسيراً، أنه بعد أن زادت وتراكمت مشكلات العالمين العربي والإسلامي قَلّ اهتمام الملوك والرؤساء بالحضور! ذكرت لك يا أبت أن الملل والإحباط أصاب عالمينا، وإذا كان الأمر أصبح مقصوراً على إلقاء الكلمات؛ فلماذا يُكلف الملوك والرؤساء العرب والمسلمين أنفسهم عناء السفر، هناك البث المباشر عبر الأقمار الاصطناعية بإمكانها نقل الصورة والصوت إلى قاعات المؤتمر وهم موجودون في دولهم! في اليوم الثاني، انتظر الأب مع ابنه لسماع البيان الختامي لقمة منظمة التعاون الإسلامي، الذي أشبع سقف توقعات الحاضرين بتكرار عبارات السبعينات: أكد، طالب، دعا، وأعرب، ودان، وشدد ورحب، وشجب؛ ويُحسب لهذا المؤتمر أنه أضاف بعد ثورات الربيع العربي: حمّل، وأشاد، وتضامن! أطلق الابن – الذي يدرس الحقوق في السنة النهائية في جامعة القاهرة – ضحكةً مدويةً وقال لأبيه، هناك قاعدة شرعية تقول، ليس للقاضي أن يحكم بعلمه، إنما يحكم بما يتوفر لديه من مستندات، وبعد أن سمعتَ يا أبت وعشتَ أحداث البيان الختامي لقمة العقد الأول في القرن ال21، أريد منك تعليقاً بما توافر لديك؟ معك حق، لكني أرى أن الإنجاز الأكبر كان خارج أروقة المؤتمر؛ كانت سعادتي غامرة وأنا أسمع وأشاهد شيخ الأزهر يُعلن على الملأ عودة استقلال الأزهر وتحريره من سيطرة ونفوذ القصر الجمهوري، الذي طوقه عقوداً طويلة. إنها من محاسن الثورة يا أبت؛ بالتأكيد لم نكن نستطيع أن نُسجل مثل هذا الموقف الشجاع من الأزهر الشريف، لولا انعتاق المؤسسات القضائية والدينية ومؤسسات المجتمع المدني من سيطرة المستبدين. ولكن كيف ترى يا والدي موقف الأزهر في مواجهة السياسة الإيرانية؟ الموقف حاسم، كان صفعةً أزهريةً للقيادة الإيرانية، سمع الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ما لم يتوقع أن يسمعه، لاءات خمسة أكد عليها الإمام الأكبر، لا للتدخل في شؤون دول الخليج، واحترام البحرين دولة عربية شقيقة، ولا للمد الشيعي في بلاد أهل السنة والجماعة، ولا للنزف الدموي الذي يستهدف الشعب السوري، ولا لحرمان أهل السنة والجماعة في إيران، خصوصاً في إقليم الأحواز، من حقوقهم الكاملة، ولا لسب زوجة النبي محمد عليه الصلاة والسلام «السيدة عائشة رضي الله عنها»، وأبي بكر وعمر وعثمان والبخاري رضوان الله عليهم... البروتوكولات ومراسم الاستقبال والمجاملات شيء، والتعبير عن مواقف الأمة الحقيقية الحازمة شيء آخر، إنني سعيد يا ابني بهذا، على رغم بيان العجز والهوان الختامي. * كاتب سعودي. [email protected] @alyemnia