في الوقت الذي تسعى كوبا إلى تغيير صورتها النمطية في الذهنية العالمية، ومد جسور من التعاون مع العالم الخارجي، كشفت الانتخابات النيابية التي جرت في 4 شباط (فبراير) الجاري عجز نخب الحكم التقليدية عن التعاطي مع المستجدات الدولية والإقليمية، فقد حاز مرشحو النظام كل المقاعد، لتبقى المعارضة خارج اللعبة. وتعاني كوبا التي يصل تعدادها السكاني إلى ما يقرب من 11 مليون نسمة، يعيش 74.6 في المئة منهم في المدن من حصار اقتصادي وسياسي فرضته عليها إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي منذ ستينات القرن الماضي. وعلى رغم أن انتخابات الجمعية الوطنية وانتخابات المجالس الإقليمية ال15 شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في نسبة التصويت، إذ تجاوزت حاجز ال 90 في المئة، إلا أنها لم تحرك ساكناً في بحر السياسة، إذ حرمت المعارضة التي تعتبرها السلطة «مرتزقة» لحساب الولاياتالمتحدة من الترشح. والأرجح أن ثمة إشكاليات وضعت كوبا أمام مفترق طرق، أولها توتر لا تخطئه عين، بين هافانا والولاياتالمتحدة، وازدادت التعقيدات بين البلدين على خلفية إصدار الإدارة الأميركية قانون «هيلموس بورتون»، الذي فرض عقوبات على الشركات التي تتعامل مع كوبا. وازداد المشهد تعقيداً بسبب دعم هافانا التوجه الإيراني في إنتاج الطاقة النووية وامتلاكها، وهو الأمر الذي أثار حفيظة إدارة أوباما التي أصدرت مطلع كانون الثاني (يناير) الماضي قانوناً للحد من النفوذ الإيراني في أميركا الجنوبية، وذلك عبر استراتيجية جديدة تضعها وزارة الخارجية الأميركية خلال 180 يوماً. أما التحدي الثاني فيتمثل في غياب الحد الأدنى من التفاعل والتعاون مع أوروبا التي لا تزال ترهن علاقاتها بقيام هافانا بخطوات لافتة في مجال حقوق الإنسان. خلف الصورة النمطية المشوهة لكوبا فى الذهنية الدولية، تأتي زيادة حدة الاستقطاب السياسي، إذ كانت العقود السابقة بامتياز عقود حوار الطرشان بين نخب الحكم والمعارضة. وبدلاً من السعي إلى إقامة شراكة وطنية في إطار مشروع لإعادة بناء كوبا من دون احتكار السلطة فيها أو تغيير هويتها، لعب النظام دوراً في توسيع الفجوة المجتمعية من خلال خطاب ثوري وعسكري كان عنوانه الأبرز «من ليس مع ثورة آل كاسترو وعشيرتهم فهو ضدهم». ومع قدوم راؤول كاسترو، النائب الأول والشقيق الأصغر للرئيس فيدل كاسترو في 24 شباط (فبراير) 2008، شهدت البلاد انفتاحاً نسبياً من خلال محاور عدة: أولها تبني النموذج الصيني الذي يقوم على الدمج بين فكرة الحزب الواحد والاقتصاد الحر، ونجحت إدارة راؤول كاسترو في تحقيق معدل نمو مرتفع وصل إلى ما يقرب من 3.1 في المئة بنهاية العام 2012. وثانيهما تمتين العلاقات مع الصين الشريك التجاري الثاني لكوبا بعد فنزويلا جنباً إلى جنب روسيا الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي وعدد من دول أوروبا إضافة إلى العمق الاستراتيجي اللاتيني. غير أن التطور الأهم بدأ في 14 كانون الثاني (يناير) الماضي، إذ طبقت السلطات الكوبية قانوناً يتيح للمواطنين السفر إلى الخارج، للمرة الأولى منذ نصف قرن. وبموجب هذا القانون يصبح في إمكان أي كوبي يتجاوز ال 18 عاماً التوجه إلى الخارج شريطة حصوله على إذن موثق من ولي أمره. ويأتي هذا القانون في إطار محاولات تجاوز أزمة الأبواب الموصدة والانكفاء على الذات، إذ لم يكن للكوبيين حق مغادرة الجزيرة من دون الحصول على «بطاقة بيضاء» وتأمين دعوة من الخارج، كما لا يمكنهم البقاء أكثر من 11 شهراً، تحت طائلة مصادرة كل ممتلكاتهم واعتبارهم منفيين من دون أن يستطيعوا العودة. صحيح أن معدلات الهجرة ستبقى طفيفة وهامشية، بالنظر إلى اشتراط غالبية الدول تأشيرات دخول للكوبيين الراغبين في زيارتها، ناهيك عن أن الدخل المحدود يغل يد القطاع العريض من الكوبيين عن السفر والترحال، إذ لا يتجاوز دخل الفرد شهرياً 20 دولاراً، إلا أن إصلاحات الهجرة كشفت عن رغبة هافانا في تحسين العلاقة مع أبنائها في المهجر، وهى الأقلية التي كانت الحكومة تصفها في السابق ب»الديدان الخائنة»، فضلاً عن رغبتها في كسر حاجز العزلة الذي يطوقها منذ عقود. وفي خطوة أكثر جرأة، نص القانون الانتخابي للمرة الأولى منذ نصف قرن على ألا يستمر القادة البارزون في الحكم سوى ولايتين كل منهما خمس سنوات، الأمر الذي يفسح المجال أمام جيل جديد أكثر انفتاحاً وأن ظل قابضاً على جمر ثورة كاسترو. وعلى صعيد ذي شأن، فإن منهج راؤول كاسترو لاقى استحسان قطاع معتبر من المجتمع الدولي، لا سيما الولاياتالمتحدة، التي أبدت استعدادها لفتح صفحة جديدة للعلاقة مع هافانا، وكان بارزاً هنا مرونة واشنطن تجاه حضور كوبا اجتماعات منظمة الدول الأميركية، كما خففت إدارة أوباما في العام 2009 الحظر المفروض على هافانا، ما سهّل على الأميركيين من ذوي الأصول الكوبية أمر تحويل الأموال إلى أقاربهم وزيارة كوبا، وبالفعل استقبلت البلاد في تموز (يوليو) 2012، وللمرة الأولى منذ خمسين عاماً سفينة محملة بالمواد الغذائية قادمة من ميناء ميامي في ولاية فلوريدا الأميركية، تبرع بها أبناء الجالية الكوبية. من جهة أخرى، ثمنت أوروبا خطوات الرئيس راؤول كاسترو الإصلاحية، خصوصاً في ما يتعلق بتحسين السجل في مجال حقوق الإنسان ومزيد من العفو عن السجناء والمعتقلين السياسيين، ودعم دور مؤسسات المجتمع المدني، وإن ظلت تحت رقابة الحكومة. * كاتب مصري