الشاعر الألماني شيلر والمولود عام 1759، أُجبر على دخول الأكاديمية العسكرية بأمر من الدوق تشارلز يوجين. فالتحق شيلر بالمدرسة، وبدأ دراسة القانون ومنه تحوّل إلى الطب، ولكنه أبداً لم يكن راضياً عن الجو المأزوم الذي وجد نفسه محصوراً بين أروقته، ولو كان مؤسس المدرسة العسكرية الدوق نفسه. ومع أن محاولاته الشعرية والمسرحية الأولى خرجت إلى النور من داخل تلك العتمة، وعلى رغم الأوامر العليا بحرمانه من الكتابة، إلاّ أن شيلر لم يكتف بما حققه، بل قرر التخلي عن القيود التي كبّلت حريته بالفرار من أسوار الأكاديمية. وبهروبه أصبح المحامي والمدافع عن مبدأ حرية الإنسان. فكتب قصيدته عن البهجة عام 1787. وقبل أن يستغرب القارئ من إقحام موضوع البهجة بالحرية إليكم القصة! القصيدة في أساسها تحكي عن الحرية. ولكنها ستمنع من النشر لو بقيت على مسماها الصريح. فكان أن تحايل شيلر على الأمر باستبدال حرفين من مفردة الحرية باللغة الألمانية، لتغدو مفردة أخرى تتعلق بالبهجة. ولكن المعنى الذي هو في بطن الشاعر والقصيدة كان قاصداً الحرية وليس البهجة. ومن هذه القصيدة التورية ولدت السيمفونية التاسعة لبيتهوفن عام 1823. تلك المقطوعة الموسيقية الملهمة التي قيل إنه لم يتخلص من تأثيرها أي ملحن موسيقي وصلت إلى سمعه، حيث الخاصية التي تفرّدت بها، فألهبت خيال الموسيقيين بألحانها ومضمونها. وتمر السنون، ويظهر شخص برؤى ومخيلة وعزيمة والت ديزني. فيحاول أن يخلق من الأعمال الخالدة لبيتهوفن وموزارت وأمثالهما أفلاماً بطريقة الرسوم المتحركة. فيدمج بين أفلامه والموسيقى التي عشقها. إنما التكاليف المادية لهذا الإبداع ارتفعت بالموازنة وتجاوزتها، حتى غدا أستوديو ديزني على وشك الإفلاس. ولكن إصرار وتصميم ديزني على المضي قدماً في تجربته حال دون الانقطاع. إلى أن ألف المشاهد ميزتي المتابعة والتعلّم في آن. بأسماء السيمفونيات وواضعي ألحانها التي «كانت» تظهر على الشاشة مع نهاية الفيلم الكرتوني وهو حرص على المتعة أشرك فيه ديزني كبار السن كما الصغار أيضاً، ارتقاء بنوعية رسومه المتحركة، وإيصالاً لفكرتها على نطاق أوسع. فما ديزني سوى عاشق لحرية الإبداع ولأجواء الحرية لذاتها. كما ترتكب الجرائم وتراق الدماء سبيلاً إلى الحرية، كذلك تنشأ أعظم الأعمال الفنية والأدبية تطلعاً باسم الحرية. فالروح تسكن النفس ومعها مَعينها الفطري في التوق إلى الحرية. فتأتي قوانين الحياة وتهذِّب الميل الفطري وتوجهه، وفي أحيان كثيرة تعطِّله وتحاربه. فإن كانت الروح الحرة متمردة، فلا بد لهذا التمرد أن يكتشف طرائقه وأبوابه. ومن الأرواح المتمردة تُخلّد الأيام والأحداث. إن بالشعر أو بالرسم أو بالكتابة أو بالإنشاد أو بالإنشاء المعماري أو ...! وإليكم جميع الخالدين وستجدون أنهم ولدوا بأرواح حارت فجابت وسألت... أرواح لم تهدأ وإن سكنت... أرواح أوجدت واستحدثت... أرواح خلقت لأقدارها! إنها أرواح شجاعة. لم يمنعها سراب الخوف من الخلق والإبداع، على رغم الظروف التي عاصرها أصحابها، التي ربما تكون أصعب مما نعتقد أن لا غيرنا عاشه، فالصعوبات والتحديات هي طبيعة الحياة، لكن ماذا أنت فاعل بها؟ تلك لعمري طبيعتك. من سمع باسم الدوق صاحب المدرسة العسكرية لولا اقتران اسمه بالشاعر شيلر؟ فأصحاب السلطات و«الفرمانات» لا يكسبون من استغلالهم لمناصبهم واستثمارهم لها سوى بقدر ما يسهمون به لخير الإنسانية والبشرية عامة، وإلاّ فهي مجرد لعبة كراسي، ولكن من يلعبها بذكاء تلك هي العلامة الفارقة. فليس شرطاً أن تكون فناناً وصاحب موهبة إبداعية كي تخلّد، فيكفي أن تكون الراعي الحقيقي للفنون والمواهب كي يتذكرك التاريخ ويكون مديناً إلى وعيك بأجياله المتعاقبة. فكم تردد اسم الخليفة العباسي المأمون بالنهضة الفكرية والعلمية التي تبناها وشارك فيها وشجع عليها وبلغتنا آثارها! ولكن ماذا عن أخيه الأمين الذي لم يشغله شيء قدر عزل أخيه المأمون عن ولاية العهد ومحاربته أربعة أعوام ضائعة، أجهدت خزانة الدولة ولم تثرها لا بعلوم ولا بآداب؟ وهكذا يتمايز البشر. ففي أي خانة تعتقد أنك تنتمي إلى تصنيفها.. أمين أم مأمون؟ كاتبة سعودية suraya@alhayat.com