ينتهي شارع المتنبي، وسط بغداد، عند نهر دجلة، حيث النصب الأثير للشاعر العظيم مفرِداً ذراعيه كمن يشير إلى مكانه المحبب. تحت النصب ميدان صغير، يتحول كل جمعة مهرجاناً عفوياً لكل شيء... كل ما يمت إلى حراك المثقفين والناشطين المدنيين بصلة. يزدحم المكان أسبوعياً بالعشرات. هؤلاء يلجأون إليه لعرض أنشطتهم وآرائهم. يبدو في زاوية منه معرضاً تشكيلياً، وفي أخرى ساحةً لإعلان مواقف سياسية، عبر ملصقات ومنشورات يتلقفها الجميع، وشباب يوزعون صحف الأحزاب مجاناً، لتشكّل مادة للنقاش والجدل. وثمة تجمعات صغيرة تَجْرِد ما جرى في البلد على مدار الأسبوع. ويتجمع ناشطون شباب يعرّفون أنفسهم ب «جماعة الإنسان الكوني» قرب جدار في الساحة، يعلقون لافتة كبيرة: «ميثاق أنا عراقي»، تدعو الجميع إلى توقيع ميثاق لمناهضة الطائفية: «علينا أن نكنس من ذاكرتنا هوس التاريخ والأوهام المقدسة». والحديث عن عودة الاقتتال بين المكونات الطائفية على خلفية احتجاجات في الأنبار والموصل وتكريت يعود هاجساً مسيطراً على الحراك المدني. دعوة جماعة «الإنسان الكوني» لاقت صدىً، وازدحمت لافتة «الميثاق» بعشرات التواقيع: «أنا عراقي... أنا ضد الطائفية». ويقول الكاتب والناشط في الجماعة شمخي جبر، إن «توقيع الميثاق تحول يوماً وطنياً لحماية التعايش السلمي في العراق». لكن عدداً ممن وقعوا ليسوا واثقين من أن حملاتهم تلك تؤتي ثمارها. يرون أن القوى السياسية تصنع ما تريد بمعزل عن آرائهم. كان هذا النقاش يدور حامياً قرب لافتة «الميثاق»، بينما الساحة تُشغل بحراك مختلف... فنّي الطابع، فعلى العازل الزجاجي المحيط بالساحة، قبالة نصب المتنبي، ثمة «استثمار» من نوع آخر، إنه الملعب-الفرصة للرسامين، الهواة والمحترفين، لإقامة معارضهم، وبعضها يستمر أسابيع. قد لا تكون لتلك اللوحات قيمة فنية عالية، لكن التجمع الأسبوعي في «المتنبي» متاح لعروض الهواة... هو مساحة حرة، والرسم هنا يكسب مشاهدة لا بأس بها، بعض النخبة والمارّة، وعلى الهامش ينال الرسام آراء متعددة في عمله، الذي يسعد بأنه بات مرئياً. والحال أن لوحات تعرض في شكل عفوي في الساحة، تتحول مع انتعاش الحركة فيها ركناً ملوناً قد يحظى بالاهتمام لاحقاً. ووسط ساحة المتنبي، ثمة موعد أسبوعي مختلف، تُطلق الدعوة إليه من «فايسبوك». هنا يلتقي «الأصدقاء» في صفحة ما. يتحلقون حول صاحب الدعوة فتتحول المعرفة، تتحول المعرفة الافتراضية إلى حدث من لحم ودم. عشرات الأشخاص يتبادلون توقعاتهم بعضهم عن بعض، وتخرج حوارات غاية في الطرافة: «كنت أتوقعك أطول...»، أو «صورة بروفايلك تخفي صلعتك!». ويحدث أن يتذكروا مواقف وحوارات في «فايسبوك». وينتهي هذا الطقْس بصورة تذكارية، ورحلة نهرية بين الكرخ والرصافة. حلقة الأصدقاء الافتراضيين الذين لا يعودون كذلك، تحظى باهتمام الموجودين في الساحة، ويكسبون اليوم في «المتنبي» جاذبية وإثارة. المشهد العام للساحة يشي بأنها محطة، استراحة ناشطين ومثقفين عراقيين. «هايد بارك» عراقي.