ظل معدل المشاهدة عبر الإنترنت للبرنامج التلفزيوني الذي يتناول الحوادث والجرائم في المجتمع المصري بالبحث والتحليل نحو «750 مشاهدة»، مدة من الزمن. ولكن العدد تجاوز 8 آلاف مرة في أسبوع معيّن، والعدد إلى زيادة. تناولت تلك الحلقة قضية الاغتصاب، منوهة في المقدمة باعترافات تفصيلية لفتاتين ضحيتين. اعتقدت أسرة البرنامج أن المشاهدين اهتموا بالحلقة لبشاعة هذه الجريمة، ولرغبة شعبية عارمة في التعرف إلى أسبابها وسبل تطويقها. إلا أنهم اكتشفوا شيئاً آخر من التعليقات المكتوبة. «هذا تدليس! أين تفاصيل الاغتصاب التي وعدتمونا بها؟». «الفتاة التي تحدثت عن اغتصابها يجب أن تغتصب مجدداً. شكلها فتاة ليل». «أطالب بمقطع فيديو لواقعة اغتصاب»... متعة مشاهدة واكبتها نوعية أخرى من التعليقات التي صبت جام غضبها الذكوري على المرأة أو الفتاة التي أهانت نفسها وأرسلت دعوة مفتوحة إلى كل من يريد أن ينهش عرضها يوم خرجت من بيتها لغير الضرورة، ويوم اعتنقت قيم الغرب الهدامة الداعية إلى رجس المساواة و «شيطنة» الحقوقية النسوية. الحقوقية النسوية التي هبطت على رؤوس المصريين من قمة الهرم مجبرة قاعدته على اعتناقها من دون فهم أو اقتناع، غيّرت القوانين وعدلت التشريعات الخاصة باغتصاب الأنثى. ولكنها أبقت دونية الأنثى وحصرها في دورها التاريخي الذي يدافع عنه كثيرون من الرجال دفاعاً مريراً، ألا وهو الإمتاع الجنسي. فقهاء كثر يرون أن الاغتصاب، وإن كانت جريمته لا تدخل في نطاق الحدود بمعناها الشرعي، ينبغي تركه للمشرّع لكي يحكم فيه بالقتل إذا ارتأى ذلك. ويعتبر فقهاء أن عقوبة القتل هي الأنسب – في حال ثبوت الجريمة – باعتبار الفعل من الجرائم التي تمس أمن المجتمع وتهدد مصالح المواطنين وتحصينَ النساء. إلا أن نسب جرائم الاغتصاب تزيد بزيادة التدين المظهري (أو الظاهري). الدراسة الأحدث الصادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (2008) تشير إلى أن ما يتم رصده من حوادث الاغتصاب لا يتعدى نسبة 5 في المئة من العدد الفعلي، إذ إن في غالبية الحالات تُحجم الضحية عن الإبلاغ، لأسباب تتعلق بالخوف من الفضيحة والوصمة والعار. دراسة المركز أشارت إلى حدوث نحو 30 ألف حادث اغتصاب سنوياً، وأن أغلب الحوادث وقعت في أماكن تعاني غياب الأمن. وإذا كان انعدام الأمن أو الأخلاق أو كليهما أمراً وارداً، فإن الشعور بالأمن الذي يبثه القانون العادل القادر على معاقبة الجاني، يجب ألا يترك للأهواء أو التفسيرات أو العادات والتقاليد المجحفة، كما تقول خبيرة اجتماعية فضلت عدم ذكر اسمها. وتلفت الخبيرة إلى أن المادة 267 من قانون العقوبات المصري تنص على أن «كل من واقع أنثى بغير رضاها يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو الموقتة، فإن كان الفاعل من أصول المجني عليها أو المتولين تربيتها أو ملاحظتها أو ممن لهم سلطة عليها، أو كان خادماً بالأجرة عندها أو عند من تقدم ذكرهم، يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة». إلا أن القوانين لا تعرف الثبات والدوام، بل هي في حال تغير تبعاً لحاجات المجتمع حيناً ولخدمة النظام القائم أحياناً. وقبل «25 يناير» 2011 بيومين، أعلنت 23 جمعية حقوقية غير حكومية، أطلقت على نفسها «قوة عمل مناهضة العنف الجنسي»، عن قلقها الشديد من التعديلات الحكومية المطروحة لمواد قانون العقوبات الخاصة بالعنف الجنسي. وكان مجلس الوزراء حينذاك صدق لتوه عليها استعداداً لموافقة رئيس الجمهورية. ورأت الجمعيات أن العقوبات المنصوص عليها في هذه الجرائم تتناسب والأفعال المجرمة في مجملها، وأن أهم أوجه القصور في منهجية التعديلات المطروحة تشديد العقوبات في شكل غير مبرر. لكن، سبحان مغيّر الأحوال، الحديث عن حوار مجتمعي لمناقشة السبل المثلى لحماية المرأة من العنف الجنسي والاغتصاب يبدو ضرباً من الخيال. وذلك بعد ما تدنى سقف حقوق المرأة بعد الثورة وسطع نجم الإسلام السياسي الذي يدفع المرأة دفعاً إلى أقل القليل من الحقوق، كما يبدو. وبدلاً من مناقشة سبل تعزيز مكانة المرأة – شريك الثورة - وتأكيد أن مصر الجديدة تقوم على كتفي الرجل والمرأة في برلمان ما بعد الثورة، فإذا بالبرلمان يبذل جهوداً لمناقشة سبل سلب المرأة ما حصلت عليه من حقوق بديهية في ظل النظام السابق. المركز المصري لحقوق المرأة طالب منذ أيام حزب «الحرية والعدالة» صاحب الغالبية البرلمانية والذراع السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين»، بإعلان موقفه بصراحة ووضوح تجاه التصريحات المتكررة التي وردت من أعضائه. وأشار إلى أن إذا لم يكن هذا موقف الحزب الرسمي، فعليه اتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه أعضائه النساء لإلزامهن ببرنامج الحزب الذى اختارهن الشعب بناء عليه. وذكر المركز أن من أبرز النقاط المقلقة طلب إحاطة بإلغاء قانون العقوبات على التحرش بالمرأة وتحمل المجني عليها مسؤولية مخالفة المبادئ الأساسية للقانون، والمطالبة بإلغاء المادة 20 من قانون إجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية المعروف بقانون الخلع. هذا إضافة إلى منع إثبات وتوثيق شهادات ميلاد الأطفال المجهولي النسب، والسماح بقانون اغتصاب الأزواج زوجاتهم... الكذب والتدليس هما العاملان الرئيسان اللذان يقفان وراء غالبية حوادث الاغتصاب، بحسب الباحثة في علم الاجتماع الدكتورة نيفين رضا التي تقول: «جانب كبير من حياتنا مبني على الكذب والتدليس. نجعل الصغير في المدرسة يحفظ عن ظهر قلب أننا نبجل المرأة ونحترمها ونضعها في مكانة راقية. ثم يعود إلى البيت ليجد والده يضرب والدته ويهينها، ولا تعترض الأم لأن من حق زوجها أن يؤدبها. ويمشي في الشارع ليشاهد شاباً يعترض طريق فتاة ويتحرش بها وإذا اعترضت ينصحها المارة بألا تفضح نفسها». وتعتقد أن «التخلص من مظاهر الكذب والتدليس التي تسيطر على الكثير من مناحي الحياة يؤدي في نهاية المطاف إلى مجتمع سوي قدر الإمكان، لا يصم آذاننا بقيم ومبادئ ثم يوجع قلوبنا بأفعال لا تمت بصلة لقيمة أو مبدأ».