بعد عامين على الثورة السورية، المنتصر الوحيد هو الموت، الموت الذي عشق سورية، ولم يترك بيتاً يعتب عليه، لم يترك بيتاً إلا وزاره مختطفاً ولداً أو ولدين، وأحياناً الأسرة كلها، وصارت النشرة اليومية للمجازر في سورية مثل النشرة الجوية، نسمعها ونحن في حال شلل وإحساس تام باليأس والعجز. بعد عامين من الدمار والقتل والترويع تحوّل السوريون الباقون حتى اللحظة - أو حتى إشعار آخر- أحياء إلى بشر بنخرهم الحزن والقهر، وينحصر حديثهم في أشكال الموت، وأشكال الوحشية والسادية في القتل، من تعذيب وذبح ومجازر... الرابح الوحيد في سورية هو الموت، فهو الحاضر والمستقبل، والمؤتمرات التي تعقد من أجل حل الأزمة السورية ليست سوى تمثيليات لا يصدقها أحد، لكن ما يروعني أن لا أحد يتعلم ويتوقف لحظة عن الكلام الطنان والشعارات البراقة، ليسأل من عمق وجدانه: إلى أين؟! لا أعرف كيف يستطيع شاب يصف نفسه أنه ثوري أن يحكي بتفاخر عن أسرة قتل اثنان من شبانها المنتمين إلى الجيش الحر، وبقي أخوهم الوحيد الثالث، الذي طلب من والدته أن تبيع مصاغها ليلتحق بالثورة، فشعرت الأم بالفخر والاعتزاز وأعطته مصاغها... سبحان الله على هذه القصة التي لا أصدق منها حرفاً، سوى أنها استعراض عضلات بطولية لا تمت إلى النفس البشرية بصلة. أي أم هذه، فُجعت باثنين من أبنائها تدفع بابنها الوحيد المتبقي إلى الموت وتعطيه مصاغها ليبيعه ويشتري سلاحاً! كما لو أن الموت غاية، كما لو أن السوري صار يخجل أنه حي، ويرى أن الطبيعي في بلده هو الموت، الموت الذي صار أسهل من رغيف خبز... الموت هو الغاية وهو المقدس الوحيد في سورية، مجزرة تلو مجزرة، فما كدنا نصحو من فاجعة قتل عشرات الطلاب في جامعة حلب حتى صعقنا بمجزرة أخرى وهي جثث أكثر من ستين مدنياً، مكبلي الأيدي ورصاصة قاتلة في جبين كل منهم، كالوشم على الخراف المقادة إلى الذبح... لا أفهم كيف يمكن للبعض بعد عامين من الفحش في القتل والإجرام أن يصروا على الحل العسكري، أن يصروا على البارودة والدبابة والبراميل المتفجرة، وأنواع القنابل. لا أفهم كيف يغيب المنطق والقراءة الصحيحة للواقع، وأن لا يتأكد كل سوري أن لا حل سوى الحل السياسي، سوى الجلوس إلى طاولة الحوار. أتمنى أن أفجر حبال حنجرتي بصراخ مزلزل، بكلمة واحدة فقط، وهي: الرحمة يا أطراف الصراع يا دول الجوار، يا دول العالم المتحضرة اللاأخلاقية، ارحمي الشعب السوري، ارحمي آلاف الأطفال الذين نزحوا وروعوا، ارحميهم حقاً، وليست رحمة مقرفة زائفة بأن تهدي طفلاً نازحاً حذاءً أو دمية، وأن تحضّري برامج براقة عن الدعم النفسي والعلاج النفسي لعشرات آلاف الأطفال النازحين... وكان أجدر بأطراف الصراع ألا تكون سبباً في قتل هؤلاء الأطفال أو نزوحهم. كفى استعمالاً لعبارات تزيد النزيف في سورية، مثل (نحن نسخو بالدم السوري أو نحن نعوّل على الشعب السوري وبأننا مستعدون للتضحية بآخر مواطن سوري حي، وواقف على أنقاض بيته في سبيل النصر...). أي نصر هذا! كفى متاجرة بدم السوريين، أي نصر هذا إذا كان الثمن تدمير كل سورية، وموت كل السوريين، ثم غرس علم وسط الأنقاض والجثث، علم النصر الأشبه بخازوق... كم أنا ساذجة حقاً حين أصدم وأروع غير مصدقة أن العالم مجرم إلى هذا الحد، وأن العديد من الدول تتاجر بدم الشعب السوري من أجل مصالحها، وأنني صرت أقرف من سماع تجار الكلام يحللون ويخططون مستعينين بخرائط ملونة وأسهم لماعة ليشرحوا سير المعارك الدموية على أرض الوطن... أريد القول لكل الأطراف التي تعوّل على الشعب السوري كي تنتصر، إن الشعب السوري ليس شمشون الجبار، الشعب السوري يريد أن يعيش بكرامة، أن يجلس في ظل شجرة مع أولاده يأكلون ويضحكون ويحلمون بالغد، الشعب السوري لا يريد أن يتحول إلى أوراق نعي، ولا أن ينام في مقابر جماعية... تحمل الشعب السوري ما لم يتحمله أيوب، وصار يلهث وراء شعاع ينير ظلام غرفته وقلبه، ووراء ليتر مازوت، وربطة خبز، وجرة غاز... الشعب السوري ليس مطية لأحد، ولا يريد أن يعوّل أحد عليه ويستخدمه لغايات وأهداف، فأي قصر نظر وغباء اتهام كل من ينادي بالحل السياسي بالخائن! وأريد أن أقول للشاب الذي حكى قصة الأسرة التي قتل اثنان من شبانها ثم تحمس أخوهم الثالث للموت بمباركة من أمه التي أعطته مصاغها، أنني كنتُ منذ أيام أعزي امرأة فقدت شابين من أولادها، ولا يهمني على الإطلاق تصنيفهم، كانت في حالة الهستيريا، تتلوى على الأرض كدجاجة مذبوحة، وتصرخ في وجه الكون كله: لماذا مات ولداي، ثم تزغرد، ووميض جنون يلتمع في عينيها وتقول: بدي أخطب لهما أحلى بنات الحي... أقول لهذا الشاب أنني – وبحكم عملي كطبيبة - شهدت حالات مروعة من الانهيارات العصبية لأطفال وأمهات وشبان، حالات لا يستطيع أمهر الأطباء النفسيين علاجها، وأن للنفس البشرية طاقة في تحمل الوحشية والإجرام وبعدها تنكسر وتتشوه ويتحول الإنسان إلى مخلوق مشوه مدمر الروح. لا توجد أم تفرح لموت ابنها وتدفعه للموت، علينا أن نمتلك الجرأة لنعترف أن الشعب السوري أرهق حتى الثمالة، وتألم حتى الثمالة، وخسر حتى الثمالة. وأن المسيح ذاته، قال لأبيه الذي في السماوات: يا أبت، أبعد عني هذه الكأس. لا يوجد إنسان خارق ولا سوبرمان إلا في أفلام الآكشن، كفى متاجرة بدماء السوريين، كفى تسليحاً، ما عدنا نطيق منظر بندقية ولا صورة دبابة، ما عدنا نطيق زعيق سيارات الإسعاف، ولا سماع النشرة اليومية للقتلى، ما عدنا نتحمل هؤلاء المنمقين يحللون ما يحصل، كما لو أنهم يزينون الموت ويتوجونه بالنصر، فالنصر الحقيقي هو الحياة. تلك المرأة المتسولة الأربعينية التي استوقفتني قبل أيام بكل لباقة في الشارع لتشحذ ثمن ربطة خبز لأولادها وهي تعرض أمامي هويتها بأنها من حلب، قالت: والله كان عندي بيت وكنتُ أحتمي بسقف، لكن بيتي قُصف ولا أعرف من دمره... ليكن قول تلك المرأة شعار المتشدقين بقصص عنترة، من سيعيد لتلك المرأة ولملايين السوريين سقف الأمان؟! أمزيد من البنادق والصواريخ والقنابل وكل أدوات الموت، أم التوقف للحظة والغوص عميقاً في معنى الإنسانية والرحمة لشعب هو كبش فداء وحوش تتصارع عليه. * كاتبة سورية