لم يحدث ذلك الأمر ولو مرّة في تاريخ بني البشر، لذا فإنّه يبدو خارج الاهتمامات الشائعة. وفي واقع الحال، يمثّل انقلاب القطبيّة المغناطيسيّة للأرض قاعدة وليس استثناء، إذ تيقّن العلماء من حدوث انقلاب في الحقل المغناطيسي للأرض رأساً على عقب (بمعنى أن يصبح القطب المغناطيسي الشمالي هو الجنوب، والعكس بالعكس)، مرات عدّة خلال ملايين السنين الماضيّة. ويقدّر علماء الفيزياء الجيولوجيّة أنه خلال ال3 بلايين سنة الماضية، حصلت مئات الانقلابات في قطبيّة الأرض المغناطيسيّة، بمعدّل انقلاب كل مليون سنة تقريباً. في المقابل، لاحظ العلماء أيضاً أن تلك الانقلابات لا تحدث بشكل دوري، إذ ترجع المرّة الأخيرة التي انقلب فيها الحقل المغناطيسي للأرض إلى قرابة 780 ألف سنة، بحسب عالِم الجيولوجيا برونهس ماتوياما. ووفق معطيات جديدة جمعها باحثون من «وكالة الفضاء الأوروبيّة»، يتوقع أن يحدث الانقلاب التالي أبكر مما كان متوقّعاً. عكس انقلابات العسكر على سبيل التبسيط، تشبه الأرض قضيب مغناطيس كبيراً. إذا نثرت برادة حديد على ورقة، ثم وضعت قضيب المغناطيس تحتها، ترى أن البرادة تتجمع في أقواس حول طرفي المغناطيس. ويسمّى كل طرف قطباً. ويشار إلى موقع أحد طرفي مغناطيس الأرض بأنه شمال، فيما يسمّى الآخر جنوباً. وعلى سبيل الاطمئنان، لا تحدث عملية الانقلاب في مغناطيس الأرض بصورة فوريّة، على غير ما هي الحال مع انقلابات عسكر السياسة والحروب، إذ يتغيّر الحقل المغناطيسي للأرض ببطء، ويتشوّه تدريجيّاً، ويتوزّع حقولاً متعدّدة الأقطاب، خلال مخاض التغيير الطويل. وإثر ذلك الاضطراب المغناطيسي الذي يمتد بين ألف وعشرة آلاف سنة، ربما عاد الحقل المغناطيسي الأرضي إلى حالته الأولى، أو يستمر في الانقلاب رأساً على عقب. واستطراداً، لا يمثّل انقلاب مغناطيسيّة الأرض أمراً إستثنائياً يخصّها، بل أن جميع الكواكب التي تملك في جوفها العميق نواة ذائبة وفائقة الحرارة، تتمتع بمغناطيسيّة متغيرة. ولا تستثنى الشمس، وهي النجمة- الأم لمنظومة الكواكب السيّارة التي تضمّ الأرض، من الانقلاب، بل يبدّل محورها المغناطيسي اتّجاهه مرّة كل 11 عاماً، إذ يجد الحقل المغناطيسي جذوره عميقاً في قلب الأرض. وهناك، توجد نواة مركزيّة صلبة، يعادل حجمها ثلثي حجم القمر، تتشكل من حديد مضغوط ساخن، بل تصل حرارته إلى قرابة 6 آلاف درجة مئويّة. حول تلك النواة المركزيّة، توجد طبقة سميكة حارة من معادن ذائبة، كالحديد والنيكل وبعض المعادن الأخرى. ويرسم حراك تلك المعادن قصة مغناطيسيّة الأرض كلها. فبفضل الفروق في الحرارة والضغط والكثافة بين ما تحت تلك الطبقة الذائبة وما فوقها، تتشكّل تيارات من السوائل الصاعدة والهابطة، تماماً مثلما يحدث عند غليان الماء في وعاء. وتولّد حركة دوران تلك السوائل المشحونة، تيارات كهرباء تؤدي إلى خلق حقل مغناطيس، وهو أمر يشبه ما يحدث في آلة الدينامو الكهربائي. ولذا، تطلق على عملية إنتاج حقل مغناطيس الأرض، إسم «نظرية الدينامو». (لا تشبه تلك العملية في شيء المبدأ السياسي - الاستراتيجي المعروف بإسم «نظرية الدومينو»، حيث تتهاوى القطع تباعاً، بمجرد تهاوي القطعة الأولى). وبالاختصار، يساهم دوران الطبقة السائلة حول القلب الصلب في جوف الأرض، وهو أمر يحدث بتأثر الدوران السريع للأرض حول نفسها، في توليد الشطر الأكبر من الحقل المغناطيسي لكوكب الأرض. وما تشير إليه البوصلة هو الحقل المغناطيسي الذي ينتج من تفاعل جميع الحقول المغناطيسيّة في باطن الأرض. تاريخ جيولوجي معقّد كيف يمكن معرفة زمن الانقلابات المغناطيسيّة على الكوكب الأزرق؟ منذ عقود طويلة، درس العلماء صخوراً أحفوريّة ووحولا مأخوذة من أعماق أرض المحيطات، أفادتهم بالتوصّل إلى استنتاجات كثيرة عن انقلاب مغناطيسيّة الأرض. ونجحوا في إيجاد علاقة مباشرة بين نشاط الحقل المغناطيسي والسجلاّت الأحفوريّة لطبقات الأرض. وفي وصف مبسّط، يمكن القول إن الطبقات الكبرى للأرض، ويشار إليها بإسم الصفائح التكتونيّة، تحمل القارات جميعها، وهي تتحرّك باستمرار. وفي باطن الأرض، تسمى الطبقة المعدنيّة الذائبة بال «لافا» Lava، ويطلق الإسم نفسه على ما تطلقه البراكين أثناء ثوراتها. وبفضل الحقل المغناطيسي للأرض، تحدث عملية مَغْنَطَة لل «لافا» أثناء تجمدها في قيعان المحيطات وترسّبها فيها. وتؤثّر تلك الآليات في حركة الصفائح التكتونيّة الكبرى للأرض، كما هي الحال على جانبي الأطلسي حيث يستمر البر الأوروبي في الابتعاد عن الصفيحة التكتونيّة التي تحمل أميركا الشماليّة. وبذا يبدو منطقيّاً القول بأن دراسة ال «لافا» الآتية من بواطن الأرض تساعد على معرفة تاريخ الانزياح المغناطيسي لحقل الأرض. وتجري دراسة ال «لافا» بواسطة تحليل مواد رسوبيّة وأحفوريّة مأخوذة من أعماق المحيطات، إضافة إلى دراسة الصخور التي تنجم عن تجمّد ال «لافا» المتجمدة على اليابسة وفي البحار. فأثناء عملية تجمّد ال»لافا»، ينحفر فيها أيضاً اتّجاه الحقل المغناطيسي للأرض في الوضع الذي كان فيه عند خروج تلك الحمّم من جوف الأرض. كذلك تتيح دراسة توزيع مادة «المغناتيت» (وهو مغناطيس طبيعي ينتج من أحد أوكسيدات الحديد) في الصخور الصلصاليّة القديمة، قياس الحقل المغناطيسي للأرض كما كانه في زمن تشكّل تلك الصخور. وتبيّن للعلماء أن قوة الحقل المغناطيسي الأرضي أخذت بالتراجع منذ قرابة 1500 عام، وأنها خسرت 10 في المئة من قوّتها خلال الخمسين سنة المنصرمة.