قبل فترة رأيت صورتين التقطتهما وكالة ناسا لكوكب المريخ تُرجح وجود مياه فوقه.. الصورة الأولى التقطت في ديسمبر 2001والثانية التقطت(لنفس الموقع ) في أغسطس . 2007.وفي الصورة الثانية يظهر جدول ماء كبير ينحدر الى أسفل الجرف - في حين لم يكن موجودا في الصورة الأولى قبل ست سنوات.. ولأن المريخ(من الناحية الرسمية) كوكب جاف لا ماء فوقه ولا أوكسجين؛ شكلت الصورة الثانية معضلة حقيقية لعلماء ناسا.. فرغم أنها بدت للبعض كتدفق ترابي أبيض ، ورغم أن البعض الآخر أعادها لنيزك ثلجي ذائب ، إلا أن المواصفات الفيزيائية للصورة(التي رأيتها شخصيا في مجلة ساينس) لا تحتاج لعين خبير وترجح أنه جدول ماء كبير يتجاوز طوله الثلاثمائة متر!! ... وفي الحقيقة؛ ليس أسعد على علماء الفلك من اكتشاف مياه جارية على "كوكب ميت" كالمريخ.. فوجود المياه يعني وجود الحياة ، ووجود الحياة - حتى بأبسط أشكالها - يفتح احتمالات ظهورها على كافة الكواكب.. وأهمية الصورة الثانية(التي لم تعلن عنها ناسا إلا مؤخرا) تكمن في تفردها ومخالفتها لبعض الوقائع المعروفة عن المريخ.. فالمريخ كوكب جاف معبر كان يملك(في الماضي) مياها غزيرة ومحيطات شاسعة.. وهذه الحقيقة تثبتها وجود قنوات جافة وأحواض بحرية فارغة كانت تغطي 80% من سطح الكوكب(ناهيك عن اكتشاف طبقات صلصالية لا تتشكل إلا حين تغمر المياه المالحة الصخورالبركانية لملايين السنين).. وبفضل مركبات الاستكشاف التي أرسلت للمريخ اتضح أن قسما من هذه المياه مازال موجودا في طبقاته الجوفية - ناهيك عن ثلوج القطبين التي يمكن رؤيتها بتلسكوب صغير! .. واليوم يجمع علماء الفلك على أن المريخ(الذي تكون في نفس الفترة مع الأرض) كان رطباً في الماضي ويتمتع ببحار وأمطار ودورة مائية كالأرض. أما لماذا اختفت مياهه(وكيف؟) فيرجح العلماء فرضية التلاشي التدريجي لغلافه المغناطيسي.. فالمريخ كان يملك في الماضي غلافا مغناطيسيا(مثل الأرض الآن) يحميه من الأشعة الشمسية الخطيرة. وهذا الغلاف يتولد نتيجة لدوران القلب الحديدي في مركزه(الذي يلف باستمرار كدينمو هائل) فيغلف الكوكب بدرع مغناطيسي عظيم وخفي.. ولسبب ما توقف "القلب الحديدي" للمريخ عن الدوران واختفى بالتالي المجال المغناطيسي حوله.. وأمر كهذا جعله مكشوفا للأشعة الشمسية التي رفعت حرارة الكوكب(وجرفت) معظم هوائه نحو الفضاء.. ونتيجة لاختفاء معظم غلافه الجوي - ونتيجة لارتفاع حرارة سطحه - بدأت البحار فوقه بالتبخر والصعود(بلا رجعة) نحو الفضاء الخارجي! ... هذه الفرضية المدهشة تؤكد أهمية الغلاف المغناطيسي لأي كوكب حي. وعلماء اليوم على قناعة بأن انحسار المجال المغناطيسي لأي كوكب سيجعله تحت رحمة الأشعة الكونية المتسربة للداخل.. وأمر كهذا لن يتسبب فقط بانقراض المخلوقات فوقه بل وتبخر بحاره ومحيطاته نحو الفضاء وجفافه للأبد! ... أما بالنسبة لجدول الماء(الذي ظهر في صورة ناسا الثانية) فيؤكد أن المريخ مازال يحتفظ في جوفه بكميات كبيرة من المياه التي نجت من التبخر للفضاء بفضل استقرارها على عمق كبير. ومجرد خروجها للسطح ينهي جدلا طويلا حول وجود أو عدم وجود مياه عذبة تبقت تحت سطحه(وبالتالي إمكانية استعمار المريخ مستقبلا في حال تمكن الإنسان من تحديدها وسحبها للأعلى!؟)