الخريطة هي ما يقلق الصين وجميع استراتيجيي الكوكب: المحيط الهادئ كما يُرى من بكين. يمتد قوس عملاق من الجزر والجزر الصغيرة والمياه الإقليمية لبلدان متنافسة وحتى متصارعة، يحيط بجمهورية الصين الشعبية. قوس يمتد من الشمال الى الجنوب، من اليابان الى اندونيسيا. ويعتبر البلد الأكثر سكاناً في العالم أن هذا الحاجز يفصل بينه وبين مستقبله ويحول دون تبوئه مركز القوة الأولى على الصعيد العالمي. ويعتزم تغيير هذه الخريطة. ولكن هل يفعل ذلك مهما كان الثمن؟ لم تتصرف الصين ولفترة طويلة سوى على الورق تقريباً. وفي الخرائط الرسمية الصينية كان بحر الصين الجنوبي يظهر في مربع صغير أسفل يمين الخريطة وبمقياس مختزل. وتطالب بكين بثلاثة ملايين كيلومتر مربع وبكل الأرخبيلات الواقعة ضمن هذه المساحة، على رغم أن الجزر تقع على بعد آلاف الكيلومترات عن شواطئ الصين. واحتجت الدول المتشاطئة بشدة على هذه المطالب، وتزيد الصين حضورها يوماً بعد يوم، حتى ليبدو مُهَدِّداً في هذه المياه المتنازع عليها. نقلت الدول التي تشعر بالخطر المسألة إلى الأممالمتحدة داعية إلى تطبيق القواعد الدولية حول المياه الإقليمية. أكثر هذه الدول مؤيد لواشنطن، الجهة الوحيدة القادرة على تهدئة الشراهة الصينية. لكن بكين لا تريد الإصغاء الى أي شيء، وتستعد لتنشر في شباط (فبراير) خريطة «الصين الكبرى» التي تجازف عبرها بإظهار مزيد من الأنياب. هذه المرة ضمت وعلى مقياس واحد بحر الصين الجنوبي الشهير، إضافة إلى 130 جزيرة وحَيْداً بحرياً. وستحمل إشارة صريحة إلى أنها «أراض صينية». وكان اكتشاف خريطة مشابهة مطبوعة على جوازات السفر الصينية التي تحمل المعطيات البيولوجية، أثار ضجة عارمة في تشرين الثاني (نوفمبر). ولوحت بلدان بعدم وسم جوازات السفر هذه بأختامها. وقررت الهند التي تخوض نزاعاً حدودياً مع الصين في جبال الهملايا، أن تطبع ببساطة فوق الخريطة الصينية تصورها هي للحدود المشتركة. ولم تتكلف الصين عبء إخفاء طموحاتها الإقليمية ولا إخفاء إرادتها في تحقيق الطموحات وبتغيير خريطة المنطقة ولو باللجوء إلى القوة. وبين شواطئ الصين والحدود التي رسمتها، توالت الحوادث في الشهور الماضية. واشتركت فيها كل البلدان المتشاطئة. وقطعت البحرية الصينية في 2012 أسلاك مركب استكشاف جيولوجي فيتنامي، ومنعت ماليزيا من إرسال مركبين لدرس الزلازل إلى المنطقة التجارية الماليزية الخاصة، وأعاقت البحث عن مكامن النفط في المياه الدولية التي تطالب بها. وتحاول الصين منذ الصيف تغيير الطبيعة القانونية للمناطق التي تطالب بها من خلال فرض أمر واقع جديد. وفي تموز (يوليو)، أعلنت وسط ضجة إعلامية إنشاء «ولاية» على إحدى جزر أرخبيل سبارتلي التي كانت فيتنام تطالب بها، وذلك لإدارة الأرخبيل و «منع السفن الأجنبية من المرور فيه» وفق ما أعلنت الصين. ويزداد في الشمال خطر الخلاف مع اليابان بسبب أرخبيل صغير يتألف من ثماني جزر خالية من السكان لا تزيد مساحة أكبرها عن أربعة كيلومترات مربعة، يسميها اليابانيون (الذين يتولون ادارتها) «سنكاكو» ويسميها الصينيون (يطالبون بها) «دياويو». ويشغل هذا النزاع وسائل الإعلام اليابانية والصينية منذ سنوات، وانتقل في كانون الأول (ديسمبر) إلى مرحلة جديدة بعدما حلقت طائرة صينية فوق الجزر «في اول انتهاك للمجال الجوي الياباني منذ الحرب العالمية الثانية»، كما أعلنت طوكيو. واستمر التحرش من قبل زوارق الصيد التابعة للبحرية الصينية، ولمواجهة ذلك، تفكر اليابان في نشر سفن دورية إضافية ونقل قاعدة جوية للمقاتلات المطاردة إلى جزيرة أقرب. ولم تعد الصحيفة اليابانية الكبيرة «أساهي شيمون» تتردد في الحديث عن خطر اندلاع الحرب بسبب سنكاكو. وجرى في الصين رفع درجة حرارة الرأي العام إلى الحد الأقصى من خلال الحضور الطاغي للقضية في التلفزيون والصحف الرسمية، ويهدر «الوطنيون» على شبكة الإنترنت: «يجب تلقين الأقزام اليابانيين درساً». بل إن «الخبراء العسكريين» لا يترددون أثناء مقابلاتهم التلفزيونية في طرح إمكان حصول صراع عسكري. وساهم التصعيد في انتخاب شخص معروف بتصلبه حيال الصين في كانون الأول، هو شنزو آبي. ورئيس الوزراء الياباني الجديد المخلص للموقف التقليدي، يرفض كل تفاوض: جزر سنكاكو تملكها الصين منذ 1895، ويقول إن هذا «النزاع الإقليمي غير موجود». ولإظهار عزمها أعلنت الحكومة اليابانيةالجديدة أنها، وللمرة الأولى منذ عشر سنوات، ستزيد الإنفاق العسكري. ولتعزيز موقفه الديبلوماسي، يعتزم آبي تمتين الجبهة «المناهضة للصين» مع كل الدول التي تتنازع إقليمياً مع بكين في المحيط الهادئ، لذلك جعل رحلته الخارجية الأولى جولة على المنطقة، متعهداً تقديم سفن حراسة سواحل إلى الفيليبين وتدريب طواقم الغواصات الفيتناميين. ولكن ما السبب الذي جعل سنكاكو تبرز فجأة لتثير هذا المقدار من المشاعر وتؤدي الى هذا التصعيد؟ يلاحظ الباحثون أن قضية هذه الجزر لم تثر اهتمام القادة الصينيين إلا بعد اكتشاف مكامن ضخمة من النفط والغاز. لكن هناك مسألة أخرى. وثراء قيعان بحار الصين أمر مهم، لكنه لا يكفي لتفسير هذا الانحدار المفاجئ في العلاقات بين دول المنطقة. ويوضح ديبلوماسي آسيوي أن «ثلاثة عقود من المحاولات الرامية إلى إقناعنا بأن نهوض الصين سيكون سلمياً ذهبت هباء. هل لأننا نرفض تقاسم النفط؟ ما الذي يجري إذاً في بكين»؟ للحصول على رد أفضل على هذا السؤال ينبغي الاهتمام بخريطة «الصين الكبرى». فالرؤية من الصين تُظهر أن وضعها الجغرافي يبدو ملائماً جداً، فكبار الموظفين الشيوعيين يعلمون أن الحصول على وضع القوة الكبرى يفرض على الصين أن تكف عن أن تكون «برية» فقط. وعلى غرار الولاياتالمتحدة أو بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر، عليها تطوير قوات بحرية لأعالي البحار قادرة على تأمين خطوط الإمداد وإظهار قوتها العسكرية في البعيد. ورغم امتلاكها 15 ألف كيلومتر من الشواطئ، تظل الصين محصورة وراء قوس كبير من الجزر التي تمنع وصولها إلى المحيط الهادئ. ويتألف ما يسميه الاستراتيجيون الصينيون «سلسلة الجزر الأولى» من دول منافسة أو معادية إلى هذا الحد أو ذاك، مثل اليابان وتايوان والفيليبين واندونيسيا وماليزيا. ومعظم هذه الدول حليفة للولايات المتحدة التي يطوف أسطولها السابع الضخم في المياه الدولية من دون توقف، مقترباً اقتراباً خطيراً من الصين. أما الطرق البحرية التي يعتمد عليها اقتصاد الصين اعتماداً كاملاً، بالنسبة إلى إمداداتها من الطاقة أو صادراتها، فتمر عبر بحر الصين الجنوبي، ما يعني أنها تخضع لحماية- وحتى لحسن نية- البحرية الأميركية. * مراسلان، عن «لو نوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية، 31/1/2013، إعداد حسام عيتاني