البحث عن مخرج للأزمة المصرية هو الشغل الشاغل للمواطن المصري قبل المسؤول التنفيذي أو الناشط السياسي. صحيح أن الرموز السياسية والحزبية والإعلامية هي السائدة إعلامياً، لكن هموم الناس ومعاناتهم أكبر بكثير مما يُقال في البرامج رغم سخونته أو يسطر في الأخبار والتحليلات رغم ما فيها من إثارة. وواحدة من فضائل «ثورة 25 يناير» أنها دفعت الناس كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم إلى أتون الفعل السياسي، غير أن الإنصاف المنهجي يقتضي القول إن الكثيرين دخلوا معترك السياسة بالعاطفة قبل العقل، وبالإيحاء قبل الاقتناع، وبالممارسة قبل الاستيعاب. ومن هنا يأخذ الفعل السياسي في مصر الآن طابعاً غريباً إلى حد كبير، إذ يمزج بين متناقضات ومفارقات بالجملة، فهو فعل متطرف تجاه الآخر وثأري تجاه الماضي وانفعالي تجاه الحاضر ومثالي تجاه المستقبل. وفي المحصلة غياب الثقة وندرة المسؤولية الوطنية، والسعي المنفرد وراء تحقيق الحد الأقصى، وتجاهل الواقع بتحدياته القديمة والجديدة معاً، وانقسام مجتمعي واستقطاب سياسي فكري غير مسبوق، والترفع عن المصلحة الوطنية العامة لمصلحة ذاتية ضيقة. لم يعد يجدي تبرير الأزمة المصرية أن البلاد تمر بمرحلة انتقالية، وأن مؤسساتها الجديدة لم تكتمل بعد، وأن ميراث النظام السابق ثقيل، فتلك العوامل تفرض نهجاً وطنياً عاماً تمتد فيه الأيدي بعضها إلى بعض، وتفرض شراكة بين القوى الوطنية، وتفرض تفاعلاً ديناميكياً مع الواقع الجديد يحافظ على الدولة ككيان وعلى البشر كمواطنين أحرار متساوين. بعبارة أخرى، إن مبررات الأزمة التي يقول بها السياسيون هي حجة عليهم وتجسيداً لفشلهم الجماعي في حماية الوطن مما يتعرض له الآن من تفكك أفقي ورأسي في الآن ذاته. ولعل تحذيرات الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع في لقائه مع طلاب الكلية الحربية 29 كانون الثاني (يناير) واضحة، إذ يحمّل مسؤولية عدم تماسك مؤسسات الدولة وتعرضها لخطر الانهيار للسياسيين جميعاً. هذه التحذيرات ليست مجرد رسالة عابرة، ولكنها بمثابة إنذار من عظم الثمن الذي سيدفعه الجميع إن استمر الحال على ما هو عليه من عناد الحاكم واستعلائه وخضوعه لفصيله، وأيضاً من نفور المعارضة عن تقديم التنازل المناسب في اللحظة المناسبة وخضوع رموزها للشارع، الذي تحكمه العواطف الجياشة لا الحسابات العقلية الدقيقة. ثمة طريق واحد لا بديل عنه، ركيزته الأساسية العودة إلى جوهر الفعل السياسي، أي فن الممكن، ولا ممكن في مصر الآن إلا الحوار الجاد والمنهجي والقائم على ضمانات الشفافية والالتزام الحرفي بلا خداع لما يتم الاتفاق عليه. ولكي يكون حواراً جاداً، فلا بد من أن يكون بين الأطراف المختلفين في الرؤية والطرح والنهج، وليس كما هو حادث الآن تحت رعاية الرئيس مرسي في أداء عبثي وشكلي بين أطراف تجمعها وحدة الفكر والمصلحة، ويقوم بعضها بخدمة بعض، وبتقسيم الغنائم، وكأن المصريين غير قادرين على التمييز بين ما يجب أن يكون وما هو حادث بالفعل. الخطأ الأكبر الذي وقع فيه الرئيس مرسي ووراءه جماعة الإخوان المسلمين يكمن في الاقتناع الجارف بأن تضحيات العقود الستة الماضية من أجل استمرار وبقاء الجماعة يعطيها الحق في الحصول على كل شيء بعد أن وصل ممثلها إلى الرئاسة. وتنسى الجماعة وينسى مرسي بأن المصريين جميعهم قدموا تضحيات بشكل أو بآخر، وينتظرون من ثورتهم التغيير المناسب لأحوالهم والحفاظ على كرامتهم والمشاركة في صنع القرار، وبالتالي فإن استبعاد أو تجاهل أو الانتقاص من هذه التضحيات الجماعية للمصريين شكَّل فجوة عميقة من عدم الثقة، وقدراً متنامياً من الرفض للجماعة، وكراهية لأسلوبها في الاستحواذ على السلطة وعلى الدولة وعلى المناصب. والشائع لدى كثيرين أن الجماعة سرقت الثورة والثوار معاً، وتلك هزيمة معنوية كبيرة للجماعة وكوادرها. وفي المقابل، فإن الخطأ الأكبر الذي تقع فيه المعارضة الحزبية للقوى المدنية، خاصة المنضوية تحت مظلة جبهة الإنقاذ، يكمن في التصور الضمني بأن إسقاط الرئيس المنتخب عبر أشكال الاحتجاج الشعبي المختلفة سوف يؤدي بالضرورة إلى تسلمها السلطة لاحقاً، ولكن عبر القوات المسلحة. ومن هنا جاء رفض جبهة الإنقاذ للدعوة الرئاسية للمشاركة في حوار وطني لوضع خطة للخروج من المأزق الذي تعيشه مصر بعد الذكرى الثانية للثورة. والحق أن الرهان على دور للقوات المسلحة في إحداث التغيير في شكل السلطة الحالية، لا يقتصر فقط على القوى المدنية، ولكنه يمتد إلى قوى إسلامية. وثمة مشاهد واحتمالات تُطرح في هذا السياق: منها سيناريو أول، ويعني قيام القوات المسلحة بمواجهة جماعة الإخوان وإبعادها عن الحكم ثم تسليم السلطة إلى القوى المدنية. وسيناريو ثان، ويعني ترك الفوضى تتفاعل في الشارع إلى أن تقوم القوات المسلحة بضبط الأمر لمصلحة الرئيس وجماعة الإخوان، وبالتالي تتحقق مساحة أكبر من الانفراد بالسلطة مع مساحة تأثير أقل بكثير للمعارضة المدنية. وفي هذين المشهدين المتخيلين، يفترض كل طرف أنه قادر على توظيف القوات المسلحة لمصلحته الذاتية، ويفترض أيضاً أن القوات المسلحة ليست لديها تقديراتها الذاتية للموقف ومبادئها المرتبطة عضوياً بالمصلحة المصرية العليا، ويفترض ثالثا أن القوات المسلحة وقادتها الذين تحملوا الكثير أثناء إدارة المجلس الأعلى للقوات المسلحة شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية قد تناسوا الإهانات والسباب واللوم الذي وجه إليهم من كل القوى السياسية تقريباً، فيما رموز محدودة كانت وما زالت تقدر إيجابياً ما فعلته القوات المسلحة لإنهاء حكم مبارك وتحمل المسؤولية بعد اختفائه من المشهد السياسي. والخلاصة، وفي ضوء التحذير الذي أطلقه الفريق السيسي، أن الرهان على القوات المسلحة لكي تضع نفسها في خدمة طرف بعينه ومواجهة خصومه، هو رهان خاسر وبائس في الآن ذاته. ويدخل في باب غير الممكن اليقيني. وبناء على ما سبق، فليس هناك سبيل سوى العودة إلى الفعل السياسي الناضج، الفعل القائم على فن الممكن، فن التوصل إلى التسويات، فن تقديم التنازلات المتبادلة، فن بناء الثقة ولو رويداً رويداً، فن الحوار السياسي الرفيع المستوى وصولاً إلى نتائج محددة وآليات واضحة للتنفيذ والمتابعة. وليس أمام القوى السياسية المدنية والإسلامية سوى مراجعة مواقفها وقراءة ما يجري في الشارع بدقة والتقدم خطوة أو أكثر باتجاه الرئيس إن راجع موقفه وقدم تنازلاً مقابلاً، ومن المهم أن يدين الجميع بوضوح وقوة كل مظاهر العنف الذي تمارسه بعض الجماعات الشبابية، فلا بديل من نزع الغطاء السياسي والمعنوي الذي تقدمه بعض القوى السياسية المدنية لجماعات العنف الصاعدة والتي تظل مجهولة الأصل والمصدر والهدف حتى ولو أعلنت أنها لصالح الثورة ولحماية الثوار. فالعنف هو ضد السياسة وضد الحرية وضد الوطن بأسره. وليس بسر أن هذه الجماعات الملثمة المسماة «بلاك بلوك» ذات الأردية السوداء والتي تحاكي خبرات سابقة أوروبية أو غير أوروبية، تعني فتح باب الفوضى على مصراعيه، ومن يؤيد تلك الجماعات ويتصور أنها ستقدم له معروفاً بالإسراع في إسقاط النظام برئاسة مرسي وتقريب لحظة اعتلاء السلطة والحكم، فهو واهم ويراهن على خراب مصر قبل أي شيء آخر. ومن يسمح لمثل هذه الجماعات بالعمل باعتبارها فصيلاً ثورياً، فإنه يسمح أيضاً للطرف الإسلامي بأن يشكل فصائله وميليشياته الذاتية ويضفي عليها مشروعية كاذبة. وتلك بدورها بوابة ملكية للحرب الأهلية. وليس أمام الرئيس مرسي وجماعته ومعهما أحزاب الإسلام السياسي سوى الاعتراف بالمسؤولية المعنوية والسياسية عن الحالة الحرجة التي تمر بها مصر الآن، والاعتراف بأن التسرع في إقرار دستور معيب ومليء بالمواد الخلافية كان خطأ تاريخياً جسيماً، وأن إبعاد القوى المدنية عن عملية بناء نظام سياسي جديد جسد سوء التقدير والتعصب الأعمى وقصر النظر التاريخي. ولذا تظل الخطوة العملية الضرورية هي وقف ذلك الحوار الكاذب الدائر بين أصحاب التيار الواحد، وطرح مشروع متكامل للحوار الوطني يراعي مطالب القوى السياسية الأخرى ويفسح المجال لكل من يستطيع أن يخدم مصر ويساعد في الخروج من تلك اللحظة الحرجة بما في ذلك هؤلاء الذين عملوا في ظل النظام السابق أو كانوا أعضاء في الحزب الوطني ولم يثبت عليهم أي فساد، ولديهم من الخبرات والكفاءة ما يفيد البلاد والعباد. فالمصريون جميعاً مسؤولون عن تلك اللحظة الحرجة التي وصلوا إليها، وهم أيضا مسؤولون جميعاً عن الخروج منها، دون استعلاء أو إقصاء. * كاتب مصري