دافع الدكتور سعد الصويان عن البداوة، معتبرا أنها أسلوب حياة وطريقة تفكير ورؤية للكون، لكنه حينما يدعو إلى درس المجتمع البدوي، فهو لا يمجد البداوة، كما يذكر. وقال الصويان في حوار مع «الحياة» إنه لا يذكر أنه جلس إلى أحد من مدّعي الثقافة إلا وبدأ، كي يبرهن أنه من أصحاب الفكر الطليعي، بالنيل من القبيلة ومن البداوة والإبل، معتبراً أن هذا دليل على الثقافة الضحلة، وعلى الوعي المسلوب وعلى الفكر الشوفيني اللإنساني. وتساءل الصويان: «لماذا ندين العنصرية ونجرّم التهجم على الأقليات العرقية والدينية، لكننا في الوقت نفسه نستبيح القبيلة، ونستمرئ الهجوم على البداوة وثقافة الصحراء؟» وأوضح أن الحوار هو ثمرة الانفتاح الفكري والسياسي والاجتماعي، وأنه كلما تعودنا على الحوار وسمعنا وأسمعنا، كلما كنا أقدر على تحقيق السلام فيما بيننا وعلى العيش المشترك. إلى تفاصيل الحوار: في كتابك «فُسح سهوا» وفي مقالة حول «انحسار البداوة» ذكرت أن البداوة انحسرت مع بداية التقدم التكنولوجي، لكننا نسأل: هل ينحصر انحسار البداوة في التنقل والخيمة ورعاية الإبل، أم أن هذا الانحسار يشمل العادات والتقاليد والسلوك البدوي؟ - البداوة أسلوب حياة وطريقة تفكير وسلوك ورؤية للكون من حولنا، وهي مرتبطة بمستوى تنظيم سياسي واجتماعي متكيف مع بيئة معينة، ومستوى تكنولوجي معين لاستغلال هذه البيئة. ومتى ما تغيرت القاعدة التكنولوجية تغير كل شيء ينبني عليها، وأنا حينما أدعو لدرس المجتمع البدوي، فأنا لا أقصد تمجيد البداوة ولا التمسك بها، وإنما فقط أرى أنها تجربة فريدة للتأقلم والتكيف مع بيئة شحيحة، ولذا فهي تستحق التوثيق والدرس، مثلها مثل التجارب الإنسانية الأخرى، من الهنود الحمر في العالم الجديد إلى قبائل أستراليا الأصليين، وأعتقد أننا نحن الأولى والأجدر للقيام بهذه المهمة، بل إن هذا هو واجبنا نحو الإنسانية ونحو أنفسنا. ولكن لماذا هذا التحيز للبداوة وللقبيلة علماً بأنك حضري ولست بدوياً؟ - لا أذكر أنني جلست إلى أحد من مدّعي الثقافة عندنا إلا ويبدأ، كي يبرهن لي على أنه مثقف حقيقي وأنه من أصحاب الفكر الطليعي والمستنير، بالنيل من القبيلة ومن البداوة والإبل، وهو لا يعلم أن هذا أبلغ دليل على الثقافة الضحلة، وعلى الوعي المسلوب، وعلى الفكر الشوفيني اللإنساني، ثم لا أدري لماذا نُدين العنصرية والطائفية ونجرّم التهجم على الأقليات العرقية والدينية، وهذا أمر جيد من دون شك، لكننا في الوقت نفسه نستبيح القبيلة ونستمرئ الهجوم على البداوة وثقافة الصحراء، علماً بأن البداوة والقبلية من أهم مكونات ذاتنا الحضارية، وفصل من أهم فصول تاريخنا الاجتماعي الذي تشكل فيه البداوة والحضارة كفّتي الميزان. ثم لماذا نصور القبلية على أنها الخطر المتربص الذي يتحين أدنى فرصة للانقضاض على نسيجنا الاجتماعي لتمزيقه وتدميره، علماً بأن الخطر الحقيقي والقائم فعلاً في الواقع الراهن وليس في الوهم، يأتي من عدد محدود جداً من طبقة التجار والعائلات الثرية، التي تسيطر على مقدرات البلد، وتحاول جاهدة أن تُحكم استحواذها على مقدراته وقراراته، ولا تألوا جهداً في تفويت الفرصة على أي شخص خارج هذه الدائرة الضيقة وحرمانه من النفاذ إليها. ولن أعرّج هنا على المتنطعين بالدين وطبقة «الأكليروس» لأن هناك ما يكفي من الكُتاب الذين كفوني مؤونة ذلك. في نصيحتك لشباب الساحات، تساءلت لماذا لا يستفيد هؤلاء الشباب من أجواء الانفتاح الإعلامي، برأيك هل يكفي الانفتاح الإعلامي لتغيير الانغلاق الفكري أم أن هناك وسائل أكثر جدوى؟ - الحوار هو ثمرة الانفتاح الفكري والسياسي والاجتماعي، وكلما تعودنا على الحوار وسمعنا وأسمعنا، كلما كنا أقدر على تحقيق السلام في ما بيننا، وعلى العيش المشترك، فغاية الحوار ليست بالضرورة أن تقنعني أو أقنعك، وإنما هو احترام حرية الآخر واحترام آرائه ومواقفه مهما اختلفت عن آرائنا ومواقفنا. فالحوار ليس نشاطا دعوياً ولا وعظياً، بل هو على اسمه «حوار» و«تبادل» وجهات نظر، فالحوار قضية جدلية قد ينتج منها تغيير الآراء والمواقف المبنية عليها، وتبني آراء ومواقف جديدة ربما تصبح مشتركة لكلا الطرفين. التنابز بالألقاب، سلوك مقيت دينياً واجتماعياً وحضارياً، فهل إلغاء اسم العائلة أو القبيلة من الهوية الوطنية يحررنا من العنصرية؟ - لا أظن أن المشكلة تكمن في الانتماءات الصغرى مثل العائلة أو العشيرة أو الطائفة أو المنطقة، تأتي المشكلة حينما نقدم هذه الانتماءات الفرعية على الانتماء الأكبر والأشمل، أقصد الانتماء للوطن، أو حينما تتخذ هذه الانتماءات صفة الطبقية والتراتبية، ويعتقد أي منها أنه هو الأفضل والأنقى والأجدر والأكثر أصالة، أو أنه هو من يملك الحقيقة المطلقة. في رأيك كيف يمكن استلهام المأثور الشعبي في أعمال فنية وأدبية وفي معالجات لقضايانا المعاصرة، ومن تعتقد أنه قادر على هذه المهمة؟ - كلنا قادرون لو نَفَذْنا من الشكل الظاهري للمأثور إلى استلهام المضامين العميقة والرموز المغلفة، ومن ثم عصرنتها وإعادة إنتاجها في قوالب جديدة ومدروسة. كيف لنا مثلاً أن ننهض بالمجتمع ونغرس في نفوس أفراده المفاهيم الحضارية التي تقوم عليها التنمية مثل الدوافع والحوافز والإنجازية في العمل والترشيد في الاستهلاك ونظافة البيئة، وغير ذلك من المفاهيم الأخرى. إذا كنا نجهل القيم والعادات التي تسيّر سلوك الناس وتلون نظرتهم للحياة، أيضاً خذ مثالاً فنون «العرضة» و«الخطوة» و«الرزيف» و«القلطة»، كل هذه فنون بأدائها وأزيائها ومختلف مستلزماتها قابلة للمسرحة، ثم لماذا لا نستفيد مما يتضمنه شعر القلطة من رمزية شفافة، ونقد مغلف لتوظيفه في مجالات النقد السياسي والاجتماعي! هناك أحداث تاريخية جميلة في تاريخنا الوطني، ألا يمكننا استلهام هذه القصص لمادة التاريخ في الصفوف الابتدائية؟ - حبذا لو وجّه هذا السؤال إلى القائمين على التعليم والمناهج الدراسية وجهات الرقابة. مقالتك التي تحدثت فيها عن قصتك مع الفشل، يمكن أن تكون بداية لتدوين سيرتك الذاتية في المرحلة المقبلة، ما تعليقك؟ - «يابنت الحلال خليها مستورة، ما لنا ومال الفضايح». على موقعك الإلكتروني، لا زالت مكتبتك معروضة للبيع، ألم تجد مشترياً، أم أنك تريد أن تثبت أمراً آخر؟ - المكتبة تحوي نوادر قيّمة، بعضها نشر في القرن ال19 وأوائل القرن ال20، ولم تعد متوافرة في المكتبات التجارية في العالم كله، خصوصاً تلك المتعلقة بالبدو وحياة الصحراء وكتب الرحالة الأجانب الذين جابوا الجزيرة العربية منذ القرن ال19، وما دفعني إلى شراء ما تحويه من كتب هو أنني كلما احتجت إليها وذهبت للبحث عنها في المكتبات العامة وفي مكتبات الجامعات عندنا لا أجدها، فأضطر لشرائها بأغلى الأثمان، وقد استفدت منها أيما فائدة، لكنني أودّ الآن لو أن جهة محلية تتولى حفظها والعناية بها وإتاحتها للباحثين، لأن أيام الإنسان في هذه الدنيا محدودة. هل سبق أن طالعت أعمالاً روائية سعت إلى توظيف الموروث الشعبي، وكيف وجدت هذا التوظيف؟ - إن كنت تقصدين على المستوى المحلي فأنت وأنا نعرف أن هناك محاولات عدة من هذا القبيل، لكن «ما كل من يخض الصميل يطلّع زبد». في مصر والعراق وسورية وظف الروائيون المحكي الشعبي في شكل أنتج أعمالاً رائعة، لكن في المملكة لا تزال الرواية مشغولة بالفضح، ماذا تقول؟ - هل تلمحين إلى أننا مجتمع مولع بالنميمة، نهتم بالفضائح أكثر من أي شيء آخر؟ في مقدمتك ذكرت أنه لا أحد ترجاك لتنشر هذه المقالات، فهل هي سخرية من أولئك الذين يثابرون على الكتابة أن هناك من ترجاهم، وألّح عليهم أن يجمعوا مقالاتهم وطبعها ليتسنى للقراء الإفادة منها؟ - «ما شاء الله عليكي.. تلقطينها وهي طايره». في مقالة «الفن والحياة».. تساءلت حول استلهام الرسامين والنحاتين والفنانين والتشكيلين للبيئة المحلية، وفي الواقع أنت تثبت أنهم بعيدون تماماً عن الفن والشعبي ومرادفاته، كيف يمكن دفع هؤلاء إلى الإفادة فعلاً.. لا مجرد كلام؟ - يمكن ذلك حينما تتوقف وسائل الإعلام والمنابر الثقافية عن التهجم على موروثنا الشعبي وتشويهه، والبدء بتقديمه في شكل ملائم لا يبخسه حقه. مقالاتك تجلب عليك النقد، بخاصة من أولئك البدو، الذين أنت تنقدهم نقداً موضوعياً، ألا يؤثر فيك هذا النقد، أو على الأقل يحبطك من أن هؤلاء لا يفهمون دوافعك التنويرية؟ - النقد ليس مشكلة، المشكلة سوء الفهم، أما الإحباط فلو كنت سأحبط، فإن هذا ليس هو المصدر الوحيد للإحباط، ولطالما قلت مراراً وتكراراً للحضر والبدو وللأمي والمتعلم أن المأثور الشعبي بالنسبة لي هو مجرد موضوع للدرس والنظر، أتعامل معه بحيادية وموضوعية، وليس أسلوب حياة ولا طريقة تفكير وسلوك.