عند أطراف بلدة الراعي الغائرة في الريف الحلبي، المحاذية للشريط الحدودي الشائك مع تركيا، يقع السجن المركزي لحلب وريفها. بناء ضخم يحرسه شبان بعضهم في عمر المراهقة، يستمدون هيبتهم من سلاح حملوه على أكتافهم ولحية يعملون على إنباتها. نائب مدير السجن، «أبو جمال الثاني» كما يطلقون عليه، شاب في الخامسة والعشرين، يمنحه موقعه كمشرف فعلي على إدارة السجن سلطة تلقائية لا يحتاج للتباهي بها. وهي سلطة يستمدها أيضاً من أخيه الأكبر «أبو جمال الأول» رئيس أمن الثورة. لا يأتي إلى تلك الهضبة إلا من قصد السجن أو مركز أمن الثورة المحاذي له. عند المدخل، كما في بقية المراكز وبينها المقر العام للواء التوحيد في مدينة حلب، يسلم المسلحون سلاحهم كشرط للدخول. وفي هذا الصباح القارس جاءت سيدتان إحداهما طاعنة في السن تسأل عن «عمر جليلاتي» المتهم بنصب مكمن مع اثنين من إخوته لأبو محمود الليبي وقتله. ويتناقل أبناء ريف حلب تلك الحادثة بكثير من الغموض والتشويق تجعلها أقرب إلى أفلام المافيا الإيطالية حيث تتقاطع التصفيات الداخلية بتدين عميق وشعور أعمق بإحقاق الحق. وتقول الرواية إن أبناء الجليلاتي، الذين زعموا زوراً انضمامهم إلى الثوار بهدف اختراقهم لصالح النظام، تقربوا من الليبي الذي جاء ينقل خبرته في القتال إلى «إخوته» السوريين، فاستدرجوه لتسليمه مقابل مبلغ مالي ومنزل فخم في اللاذقية. وحين قاومهم قتلوه طعناً بالسكاكين. ولما كانت سيارة أولاد الجليلاتي تقترب من أحد حواجز الجيش الحر تنبه «الشباب» لما جرى، فأعدموا اثنين منهم ميدانياً انتقاماً لليبي، فيما توارى الثالث عن الأنظار حتى أعيد إلقاء القبض عليه وألقي في السجن. وإذ دفن سر مقتل الليبي معه في جبانة إحدى قرى الريف الحلبي، لا يزال غير معلوم كيف تثبت «الشباب» من خيانة أبناء الجليلاتي كما لا يرحب أحد بالتدقيق في هذا الشأن. وبغض النظر عن صحة الرواية وعدم تماسك بعض أجزائها، من قبيل أن الليبي لم يقاتل في صفوف «جبهة النصرة» مثلاً وإنما انضم إلى لواء الفتح «المعتدل»، يبقى أنها أصابت وقعاً في النفوس. تلك هي عقوبة الخيانة. السيدة التي جاءت تسأل عن ابنها أجلست جانباً ريثما يتم البحث لها عن إجابة، فيما وصلت سيدتان من مدينة حلب تتقصيان مصير زوج إحداهما. بدت على السيدتين ملامح أكثر مدينية في اللباس والماكياج الخفيف، كما خلت أحذيتهما من آثار وحل الطرقات هنا. تحدثت الأصغر سناً بينهما بصوت خافت لكن واثق إلى حراس السجن، إلى أن وصل أبو جمال «الثاني» فخاطبته بشيء من الود. «زوجي (فلان) ربما يكون هنا. اختفى منذ ستة أشهر وبحثت عنه في كل السجون الفرعية ولم أجده. هل لك أن تخبرني إن كان عندكم؟». أومأ أبو جمال برأسه من دون أن ينطق بكلمة، وعاد إلى مكتبه وكلف أحد معاونيه البحث في سجلات الأسماء المحفوظة على جهاز كومبيوتر. ويبدو أن حضور العائلات بحثاً عن «مفقودين» يتنافى وتأكيد أبو جمال بأنه يتم إبلاغ الأهالي فور توقيف الشخص «ليقوموا بزيارته أو الاتصال به للاطمئنان». ثم يستدرك بأن ضعف تغطية شبكة الهاتف والانقطاع شبه التام للتيار الكهربائي يحولان منذ مدة دون ذلك التواصل المستمر بين السجناء وذويهم. والسجن هذا كان مصرفاً زراعياً في قرية لم تشارك فعلياً في الثورة لكنها «قدمت لاحقاً مقاتلين في لواء التوحيد» كما يكرر أكثر من شخص كنوع من تبرير استلحاق البلدة لنفسها في اللحظة الأخيرة. أطفالها يتحدثون اللغة التركية في لعبهم، وكبارها يعملون بشكل أساسي في التجارة وإصلاح السيارات. حتى شعارات الوحدة والاشتراكية والقومية على جدران بعض المؤسسات الرسمية فيها لم تمح كلياً، وإنما شطب عنها فقط ما يمت بصلة مباشرة إلى «الأسد» و «القائد» و «الأبد». وبعد سيطرة لواء التوحيد على كامل الريف الحلبي، وانضواء عدد كبير من الكتائب تحت رايته، تعاملت قرى كثيرة مع الأمر الواقع لحاجتها الفعلية لسلطة بديلة. فأنشئ أول سجن مركزي في بلدة تل رفعت، لكن الصواريخ أصابته ودمرت جزءاً كبيراً منه، فتقرر نقله إلى بلدة الراعي الأقرب إلى الحدود اعتقاداً إنها أكثر أمناً، لكن الصواريخ لم توفره أيضاً. وكان الثوار «غنموا» المصرف الزراعي فأعادوا تقطيعه وتصميمه ليلبي حاجات دوره الجديد. ويخصص المبنى لأقسام الإدارة والنظارة، إضافة إلى المطبخ والمستوصف اللذين تشرف عليهما لجان مختصة بالتموين والتمريض، فيما الهنغارات التي كانت سابقاً مخازن للحبوب تحولت غرفاً للسجناء. وبهذا قسمت المساحة إلى 15 غرفة رئيسية سعة الواحدة 30 شخصاً، بالإضافة إلى غرف للعزل الصحي لمن يعانون أمراضاً وغرف الحبس الانفرادي وقسم للنساء لم يستفض محدثنا في الشرح عنه. ويضم السجن اليوم نحو 400 سجين بين مدني وعسكري من كافة المناطق الحلبية، ويسمح لبعضهم بالزيارة أيام الجمعة فيما يحرم الخطرون منها كما من مكتسبات أخرى. ويستخدم الانفرادي لعزل المعتقلين الخطرين «ليومين أو ثلاثة ريثما يتم التحقيق معهم فحسب» وليس كإجراء عقابي. أما العقوبات التي يصدرها قاض شرعي في قسم أمن الثورة أو بقية المراكز فتتراوح بين 10 أيام كحد أدنى أو عقوبة قصوى هي «الحبس حتى سقوط النظام»! أمن الثورة في المبنى المجاور للسجن يقع مركز أمن الثورة ويرأسه مطلق فكرته أبو جمال «الأول». فهذا القيادي في لواء التوحيد، الذي كان يعمل محاسباً ويملك محلاً تجارياً قبل الثورة، تنبه على ما يقول إلى «تجاوزات يرتكبها الذين انضموا متأخرين إلى الجيش الحر، وكان لا بد من آلية لضبطهم». فهؤلاء بحسبه «ليسوا ثوريين في العمق ولا يحملون فكر الثورة ولا نية الحفاظ عليها» لذا سهل عليهم الشطط عن مبادئها. وإذ فقدت الثورة عدداً كبيراً من مطلقيها «السلميين» الأوائل، سواء قتلاً أو اعتقالاً أو انكفاء، اضطرت في ما بعد إلى قبول كل من ينضم إليها بحجة أنها للجميع، وكان التسليح يومها محدوداً وفي «أيد أمينة». أما وقد انتشر السلاح وما يأتي معه من سلطة متفلتة من أي عقال، بدأ ارتكاب الأخطاء وما عاد الهدف من حمله إسقاط النظام وإنما أيضاً قطع الطرق والسرقة والسطو، وأخطر من هذا وذاك، صلاحيات فردية بملاحقة ومعاقبة من يعتقد إنه يوالي النظام أو يدعمه! وهكذا جرت إعدامات ميدانية يعلم بها الجميع ويتكتمون عنها بحجة حماية الثورة. فإذا بها تسقط في فخ خدمة أعدائها. ويقول أبو جمال: «الاعتقاد بأنه يمكننا منع وقوع إعدامات ميدانية بشكل كامل هو ضرب من الخيال. فعندما يلقي الثوار القبض على جنود مثلاً يقتلونهم على الفور انتقاماً، ونحن نسعى دائماً لإفهام الشباب إن الإجهاز على جريح لا يجوز شرعاً». هكذا باتت الحاجة ملحة لوضع آليات محاسبة ضمن الجيش الحر لأنه بدأ يخسر الحاضنة الشعبية. وهي نقطة تنبهت لها القيادة وإن كانت لا تملك حقيقة وسائل كافية للتوفيق بين الجبهة وما تتطلبه والعمل المدني وحاجاته. ويدرك «أبو جمال» إنه «كمواطنين لا يمكن نكران أن النظام على مساوئه كلها وفر الأمن والأمان. وإذا كانت الثورة ستخسر ذلك فربما يذهب الناس لدعم بشار». وعليه، أطلقت المبادرة ودعمتها الكتائب على رغم أن كثيرين تحفظوا عن فكرة «المحاسبة»، لا سيما إذا تعلقت بالقيادات. فالزمن زمن ثورة ولا صوت يعلو فوقها. ولا يقتصر الخوف من المحاسبة والعقاب على المستفيدين ممن جنوا مكتسبات وسلطة على حساب الثورة، وإنما يشمل أيضاً من يخشون الانقسام والفتنة ضمن الجيش الحر نفسه. فالبعض يلوم «أبو جمال» اليوم على أدائه كشرطة عسكرية في الوقت الذي تتطلب المرحلة رص الصفوف. ذاك أن قادة ميدانيين دأبوا على سحب رجالهم من مواقع القتال للتحصن بهم داخل مناطقهم وفرض شروطهم، وهو ما سبق أن جرى في بلدة أعزاز المجاورة مثلاً. وكانت البلدة تحولت إلى مرتع لعصابة موصوفة تتحكم بالمعبر مع تركيا فتخطف وتفرض الخوات وتعتقل من تشاء «حتى داهمتها قوة من أمن الثورة فاستعادت المعبر واستتبت الأمور في البلدة». ويختص أمن الثورة في حلب وريفها بشؤون العسكريين ضمن الألوية والكتائب التابعة لها، فتأخذ بحقهم الإجراءات اللازمة وتحيلهم إلى المحاكم الشرعية التي تنظر في قضيتهم وتنزل حكمها. ويشتكي الأهالي حيناً من تمييز في المعاملة وتساهل مع عناصر بعض الألوية. لكن ذلك لا يمنع أبو جمال من متابعة مهمته في الصلح حيناً، وفرض غرامة مالية وإرجاع المسروقات لأصحابها حيناً آخر... أو نقل الجاني إلى المبنى المجاور في ضيافة أبو جمال «الثاني».