بعد حوالى 89 سنة على ولادة الجمهورية التركية، على أنقاض الخلافة العثمانية، اكتشف الأتراك أن في محيطهم جواراً عربياً ينبغي التوجه إليه إعلامياً. فقرروا افتتاح مكاتب ل «وكالة الأناضول» للأنباء في أكثر من دولة عربية، عملاً بالمثل القائل: «أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً». لكن التأخر استغرق حوالى 93 سنة على تأسيس الوكالة. ومع ذلك، «نريد التقرّب أكثر من العالم العربي ومعرفته بعمق وتغطية أخباره عن كثب، تعويضاً عن كل تلك السنوات التي كنا بعيدين منه»، يقول مدير القسم العربي في «وكالة الأناضول» توران كشلاكجي (40 سنة). «المهم أننا حضرنا بعد هذا الغياب، وسنعمل جاهدين لسدّ فجوة السنوات الطويلة الماضية». انفتاح... بقرار سياسي يعترف كشلاكجي، الذي يتحدث العربية بطلاقة، بأن تركيا ما كانت لتخطو هذه الخطوة لولا قرار رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان بتوطيد العلاقات التركية – العربية على كل الصعد والمستويات، سياسياً واقتصادياً... وسياحياً. «ولأن الإعلام يشكل عصباً أساسياً في ذلك، قررت الحكومة التركية قبل خمس سنوات أن تنفتح على دول العالمين الإسلامي والعربي إعلامياً، من طريق توسيع نطاق عمل «وكالة الأناضول» الرسمية، والتي تعد أكبر وكالة أنباء في الشرق الأوسط». هكذا، انضمت لغة الضاد إلى اللغات الأخرى التي تبث بها الوكالة أخبارها، وهي الإنكليزية والروسية والأذرية والبوسنية والكردية. و «نطمح إلى أن نبث أخبارنا ب11 لغة خلال السنوات السبع المقبلة، أي مع احتفال الوكالة بمئويتها الأولى عام 2020»، وفق تعبير كشلاكجي. تعد «وكالة الأناضول» إحدى كبرى وكالات الأنباء الدولية، إذ يعمل فيها حوالى 2900 صحافي يتوزعون على 200 مكتب. وهي تنتج يومياً حوالى 4000 خبر و2500 صورة، فيما يصل عدد التقارير المرئية إلى حوالى 400 تقرير. وتسعى الوكالة التركية إلى أن يكون لديها 80 مكتباً خارجياً، موزعة على 9 أقاليم كبرى حول العالم، هي: أوروبا والشرق الأوسط والقوقاز والبلقان وأميركا والشرق الأدنى وجنوب شرقي آسيا وجنوب آسيا وأفريقيا. الثورات العربية... «أزهرت» قسماً عربياً كان لثورات «الربيع العربي» دورٌ في تسريع خطى «وكالة الأناضول» لافتتاح القسم العربي الذي أبصر النور عام 2012. ويضم القسم العربي، الذي يتخذ من القاهرة مكتباً إقليمياً رئيساً له، حوالى 200 موظف يعملون يومياً على إنتاج 200 خبر و300 صورة فوتوغرافية، فضلاً عن 90 مشهداً تلفزيونياً حول أحداث يومية من مختلف الدول العربية. يعمل في المكتب الإقليمي في القاهرة حوالى 30 موظفاً يتولون بث الأخبار التي تصل إليهم من مراسلي الوكالة المنتشرين في مختلف العواصم العربية، مع العلم أن ل «وكالة الأناضول» مكاتب في كل من القدسالمحتلة وغزة وطرابلس (ليبيا) وعمّان وتونس والمغرب وبيروت. «وقريباً في قطر والكويت ودبي واليمن والسودان»، وفق كشلاكجي الذي يؤكد أن القسم العربي «يعمل على تلبية حاجة دول المنطقة إلى الأخبار الصحيحة والحيادية، والمراعية أخلاقيات الصحافة». لكن، إلى أي مدى تعتمد «وكالة الأناضول» الحيادية في عملها في المنطقة العربية، خصوصاً على صعيد تغطية الثورات في بعض الدول العربية؟ يجيب كشلاكجي بحزم: «لسنا هنا لنفتح صراعات مع الدول العربية. غايتنا الأساس هي تغطية الأخبار على قاعدة أن تكون «موثوقة، حيادية، نزيهة وسريعة»، وهو الشعار الذي ترفعه «وكالة الأناضول» حول العالم. وأعتقد أنه عندما نعمل على تنفيذ هذا الشعار بحذافيره... فإننا سنكسب ثقة صناع القرار ووسائل الإعلام في الدول العربية، سعياً منا إلى تعويض غيابنا عن المنطقة العربية بعد تسعة عقود من الانقطاع». وتجسيداً لذلك، تُترجم الأخبار العربية إلى اللغة التركية فوراً، كي تستفيد منها وسائل الإعلام التركية. يرفض كشلاكجي تسمية «العثمانيين الجدد» التي يطلقها بعض وسائل الإعلام على الأتراك اليوم، في إشارة إلى أطماعهم التوسعية في الدول العربية. وهو يعتبر أن المصطلح (العثمانيون الجدد) غربي بحت، يُرفع ك «فزّاعة» لتخويف العرب من إخوانهم الأتراك الذين يرتبطون معهم بمصالح مشتركة، سياسياً واقتصادياً... وثقافياً. ويقول: «انتهى دور العثمانيين قبل تسعين سنة، والسياسة التركية اليوم تجاه العرب تقوم على مبدأ الانفتاح والفهم العميق للقضايا العربية والتاريخ الطويل من العلاقات والمصالح المشتركة». مئة سنة من الأخبار تعد «وكالة الأناضول» للأنباء واحدة من أكبر عشر وكالات أنباء عالمية، والأكبر في الشرق الأوسط. ويرتبط تأسيسها في شكل وثيق مع قيام الجمهورية التركية. ففي 6 نيسان (أبريل) 1920، وقبل 17 يوماً من افتتاح «مجلس الأمة التركي الكبير» (البرلمان)، تأسست «وكالة الأناضول» التي تولّت مهمة نشر القوانين التي كان يقرّها البرلمان آنذاك. وكانت الوكالة شاهدة على سقوط الخلافة العثمانية في 3 آذار (مارس) 1924، بعد حوالى أربعة أشهر على إعلان الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. وُلدت فكرة تأسيس الوكالة خلال لقاء في إحدى محطات القطارات جمع الروائية التركية خالدة أديب مع مواطنها الصحافي يونس نادي (آبالي أوغلو) الذي أسس لاحقاً صحيفة «جمهورييت». وكان الاثنان في طريقهما إلى أنقرة للحاق بأتاتورك ورفاقه هناك في حربه ضد تقسيم قوات الحلفاء الإمبراطورية العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. واتفق أوغلو وأديب على ضرورة أن تكون أول خطوة يقدمان عليها هي تأسيس وكالة أنباء تركية. واقتُرحت بضعة أسماء لإطلاقها على الوكالة المزمع إنشاؤها، منها «الوكالة التركية» و «وكالة أنقرة» و «وكالة الأناضول». وبعد مشاورات اتفق الجميع على الاسم الأخير الذي ما زال قائماً إلى اليوم. وفي مقرّ إقامته في أنقرة، عُرضت فكرة تأسيس الوكالة على أتاتورك الذي وافق عليها، لإدراكه أن الوكالة ستكون سلاحاً إعلامياً فعالاً في «حرب الاستقلال». وبالفعل، لعبت الوكالة الوليدة في تلك الحرب دوراً مهماً وبالغ الصعوبة، إذ كان منوطاً بها إبلاغ أخبار تركيا والعالم للجنود الأتراك في الجبهة، والذين كانوا مقطوعين عن العالم الخارجي. وبذلك ساهمت الوكالة في إسماع صوت أتاتورك و «حركته» إلى العالم. وبعد سنة على سقوط الخلافة العثمانية، أراد أتاتورك للوكالة أن تسلك طريق المؤسسات الإعلامية الرسمية. فتأسست في أول آذار 1925 شركة مساهمة باسم «شركة وكالة الأناضول». وكلّف أتاتورك مجموعة من رفاقه بتطوير عمل الوكالة وفق المعايير الحديثة المعمول بها في دول أوروبا الغربية آنذاك. وبالتالي، أصبح لها وضع مستقل تتمتع فيه بنظام مؤسساتي متميز لم يكن معمولاً به حتى في الدول الأوروبية. وطوال السنوات ال93 الماضية، عملت «وكالة الأناضول» للأنباء على تطوير أدواتها وتوسيع نطاق خدماتها تدريجاً... حتى وصلت إلى العالم العربي أخيراً. «أخذنا على عاتقنا تطوير خدمات الوكالة وإعادة هيكلتها وفق أفضل النماذج المهنية عالمياً. ونعمل ما في وسعنا حتى نحتفل بمئويتنا الأولى عام 2020، وقد احتلت «وكالة الأناضول» مكانتها ضمن الوكالات الدولية الخمس الأكثر تأثيراً في العالم»، كما يقول المدير العام للوكالة كمال أوزتورك. مكتب بيروت... للبنان وسورية أحدث المكاتب التي افتتحتها «وكالة الأناضول» في الدول العربية كان في بيروت، وهو يعد من أكبر مكاتب الوكالة في المنطقة. الدخول التركي إلى لبنان إعلامياً كان موضع احتفاء وزير الإعلام اللبناني وليد الداعوق الذي رأى فيه «عودة الثقة بالانفتاح الإعلامي والحرية في بلدنا». يعمل في مكتب بيروت 8 موظفين تتوزع مهماتهم بين إدارة وتحرير وتصوير وتسويق، إضافة إلى 30 صحافياً لبنانياً مستكتباً (تتعامل معهم الوكالة ب «القطعة»)، منتشرين في كل المناطق اللبنانية. يهتم مكتب بيروت بتغطية الأخبار اللبنانية وكل ما له علاقة بتركيا في لبنAان. كما يتابع أيضاً الملف السوري بعد إغلاق مكتب الوكالة في دمشق إثر توتر العلاقات بين البلدين نتيجة اندلاع الثورة السورية. وتتولى الصحافية بولا أسطيح، وهي محررة أساسية في مكتب بيروت، ملف الأزمة السورية «لعلاقاتي مع الناشطين في الداخل السوري، كما مع الجيش الحر، فيما تكون المتابعة الروتينية للملف في مكتب اسطنبول». تقول أسطيح (26 سنة) الآتية إلى «وكالة الأناضول» من صحيفة «الشرق الأوسط»: «تتركز الأخبار التي نعالجها على الجانب السياسي البارز، كما نعطي أهمية أيضاً للمواضيع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية... والمنوعات»، موضحة أن الوكالة تولي أهمية قصوى لملف اللاجئين السوريين في لبنان، إذ «تعد قضيتهم (الإنسانية) أولوية بالنسبة إلى الوكالة». وتؤكد أسطيح التزام العاملين في مكتب بيروت «المبادئ الأخلاقية التي وضعتها «وكالة الأناضول». فنعمل، قدر الإمكان، على عدم نشر أخبار كل الشخصيات اللبنانية وغير اللبنانية التي تحرّض على الكراهية والعنف والإرهاب والتمييز العنصري».