لا تنطلق رواية الكاتبة البحرينية رنوة العمصي «الزيارة» (دار الآداب) من الحدث المفاجئ نفسه، بل من الوصف الذي يقدمه النص لهذا الحدث. زحمة ناس وسيارات تتوافد إلى الحيّ الصغير، هذا يُزيّن البلاكين باللمبات المضيئة وذاك يحمل صناديق زجاجات المشروبات الغازية والعصائر... الكلّ هنا يتحضّر لحدثٍ مُنتظر. الأشياء أيضاً على أتمّ الاستعداد. الشارع مكنوس وعتباته مغسولة والبوابات مصبوغة. مظاهر الفرح تعمّ المكان، فأيّ مناسبة تستدعي كلّ هذا الانهماك؟ هل ثمّة حفلة زفاف؟ أم إنّ شخصية مرموقة ستزور الحيّ المتواضع؟ لا تكشف الراوية عن أسباب غليان «الشارع» وانهماك عائلتها بتوضيب المنزل وتحضير المائدة، ولا عن سبب ارتدائها فستاناً جديداً، إنما تكتفي بنقل صورة مستجدة في حيّ اعتادت أن تراه على غير هذه الحالة. كأنها تريد أن ترمز إلى حدثٍ آتٍ، لكنها تستغرق في وصف المُناخات المحيطة به أولاً. هي تُحدّد الموصوف «الحي»، ومن ثمّ تُعيد تمثيل الأشياء والحركات والحالات في وجودها المكاني، لا الزماني، فيأتي وصفها في إطار «بيان الحال» الذي يقوم على تعيين خصائص أساسية وتفصيلية، فيرى القارئ تدريجاً، على امتداد صفحات، ما تراه العين دفعة واحدة. يبدو السرد في رواية «الزيارة» (أنجزت في الدورة الثانية من محترف نجوى بركات بالتعاون مع وزارة الثقافة البحرينية) مختلفاً منذ البداية. فاللغة بسيطة وقد تتداخل أحياناً مع اللغة المحكية، أمّا الصور فتترابط ببطء، ويسير زمن الحكاية بإيقاع متمهّل قياساً الى الزمن الطبيعي، بمعنى أنّ الرواية تُطيل مدة السرد على حساب مدة الحكاية. إلاّ أنّ هذه الصيغة الكتابية سرعان ما يُبرّرها وجود راوية طفلة لا يتعدّى عمرها الثمانية، إذ من الطبيعي أن يأخذ الأطفال وقتهم في السرد لاهتمامهم بتفاصيل دقيقة لكنها مهمة في نظرهم. تنفتح الرواية على عالم بطلته طفلة تعيش بين الكبار. ترصدهم بعينها وتعبّر عن قضاياهم بلغتها. هكذا يتابع القارئ مجريات الأحداث من وجهة نظر طفلة تتمسّك بالسرد، فيطغى صوتها على أصوات «كبارٍ» لا يسمعون عادة إلاّ بعضهم بعضاً. فتأتي الأشياء بأحجام مختلفة. التفاصيل أكبر من الأحداث. الزمان والمكان واسعان لا حدود لهما. الحكايات الصغيرة تغدو هي القضايا الكبرى. تمرّ كالنملة بين السيقان الطويلة، وتضيع كلماتها وسط غابة من أصوات جهورية. علاقتها بأخيها الصغير صلاح وغيرتها منه تكادان تكونان أعظم مشاكل العالم. هو الذي يبقى على حجر أمه ويسمح له والداها بأن يبكي ويضرب ويبوّل على نفسه ويتناول الرضّاعة ويفعل ما يشاء لمجرّد أنه صغير. «عندما نصل، لا ينبغي أن يحملني أبي، وإنما أستيقظ وأصعد الدرج، ثمّ أقف عندما تبدّل لي أمي ملابسي. لا أنام ولا أجلس لأنني كبيرة، ولا ينبغي أن أبكي ولا أن أخاف من الظلام في غرفة نومي عندما تُطفئ أمي الضوء. لأنني كبيرة أذهب إلى المدرسة كل صباح، وإن أردت شيئاً وأراده صلاح، أتركه له ولا أغضب» (ص 42). تُدرك الكاتبة التحدّي الذي يواجهها في إسناد مهمة «الحكي» أو السرد إلى طفلة، فتحرص على استخدام عبارات طفولية بسيطة، وتحدّد علاقة الطفلة بمن حولها عبر «ألقاب» أو تسميات معينة مثل «بابا، ماما، جدّو، طنط نوال، أنكل فتحي...». لا تكشف الراوية بداية عن عمرها، لكنّ السرد هو من يحدد سنّها من خلال كلماتها وحركاتها ونظرتها إلى الأشياء: «كنت أجلس وأحرّك ساقيّ تباعاً في الهواء، وأمسك شريحة الشيبس في اليد الأخرى. تذكرت أمي وهي تقول إن ثمة صراصير في بقالة عم حسن. أعدت شريحة الشيبس إلى داخل الكيس ووضعته جانباً» (ص11)... ولا يقف تحدّي رنوة العمصي في اختيار راوية من جيل مختلف، بل إن الكاتبة البحرينية ارتأت لأحداثها أن تدور في أحد أحياء القاهرة، وتحديداً داخل عائلة صغيرة، الأم فيها مصرية والأب فلسطيني. لكنّ شيئاً لا يدلّ إلى هوية الأب داخل منزله، ما عدا صورة للمسجد الأقصى داخل إطار ذهبي اللون. الإبنة/ الراوية تتكلم باللهجة المصرية مثل أمها، وهي لم تعرف شيئاً عن موطنها الأصلي فلسطين إلاّ بعد عودة جدّها من «مكان بعيد». هكذا نكتشف أنّ الوقائع التي سبقت الحدث إنما كانت تمهيداً لزيارة الجدّ الآتي من مدينة «لا يصل إليها القطار»، من غزّة. الصدمة الأولى كانت في «اللغة»، فالرجل الذي تنتظر أن يصل لتناديه «جدّو» يناديها «سيدو». ومن ثمّ الملبس «يضع كوفية يركّزها بإطار أسود»، وصولاً إلى اكتشاف انتمائها إلى وطن آخر غير الذي تعيش فيه مع أسرتها وأصدقائها. ما سرّ هذه الزيارة؟ هل يجب البحث في سبب عودته بعد كلّ هذه السنوات أم عن سبب غيابه؟ أسئلة كثيرة تُؤرّق الأم «المنفعلة»، تطرحها على زوجها ليلاً فتتسلّل إلى أذن ابنتهما (الراوية) التي تخلّت عن غرفتها لجدّها، الزائر الجديد. الشكوك تسيطر عليها إلى أن يفتح الجدّ صندوقه الخشب القديم لتتضّح رغبته في أن يُعيد ابنه وعائلته إلى فلسطين. قصد القاهرة يُرافقه وهم العودة مع ابنه الذي صار تاجراً ناجحاً بعدما تسلّم إدارة أعمال والد زوجته، الذي جمّع ثروة بدوره من عمله مع يهودي مصري ترك له تجارته ومحاله حين أُخرج عام 1956 من مصر إلى فلسطين. يحمل الجدّ ورقة ملكية أرض استولت عليها اسرائيل، ويريد من ابنه البكر أن يُعيدها إليه. كأنّ الدولة الغاصبة ستعترف بحقوق ضاعت منذ عقود، أو أنها ستُعيد أراضي صهينت عليها وصارت من ضمن ممتلكاتها. لكنّ الإبن الذي قصد مصر صبياً وصار له فيها بيت وعمل وأسرة يرفض العودة إلى غزّة، المدينة التي لن تعرفه بعد خمسة عشر عاماً من الغياب. هو يستخفّ بورقة يراها والده كنزاً، ويأبى أن يورّثه والده خسارته باسم الواجب والشرف. تسمع الراوية الصغيرة حواراتهما وتنقلها من دون أن تفهمها. تراقب الجدّ، فتراه وحدها كيف اتخذ من الليل درباً وخرج من منزل ابنه «الغريب» مهزوماً، خائباً، مبدّد الأحلام والأوهام. القضية، الهوية، الانتماء، الغربة، الخوف... موضوعات شائكة ومعقدة تطرحها رنوة العمصي في روايتها الأولى «الزيارة» في سياق كتابة هادئة وبسيطة لا تشي بعمق هذه التيمات وأهميتها. وقد تُذكّر هنا برواية الأميركي فيليب روث «المؤامرة على أميركا» (2004) حين اختار الكاتب المعروف أن يكون الراوي طفلاً (7 سنوات)، يُدعى فيل روث، ليحكي عن قضية اليهود في الولاياتالمتحدة، مطلع أربعينات القرن الماضي. فقدّم صاحب «الوصمة الشرية» حينها عملاً جديداً يُزاوج بين موضوع خطير وتفاصيل حياتية يرى الأطفال إليها كأنها قضايا العالم الكبرى. في عالمٍ يتحكّم فيه «الكبار» بقراراتنا وحيواتنا ومصائرنا، تبدو استعارة مخيلة طفلة لتحكي عن العالم بمشاكله وتعقيداته، صرخة توجهها رنوة العمصي في وجه كلّ من أوصلنا إليه نحو هذه المآسي والنكبات.