يقول الروائي العراقي فؤاد التكرلي: «هل بوسع الأديب أو من يظن نفسه مشروعاً لأديب، أن يصمم نموذجاً ممكناً لحياته المقبلة، أو نموذجاً يعتبره مثالياً لإنجاز أكثر الأعمال الأدبية اقتراباً من الكمال الإبداعي؟ في اعتقادي، أن ثمة تجاوزاً في هذا الأمر على قدرة الإنسان الذاتية، وعلى تقرير مصيره بين أمواج هذا العالم الصاخب. فهذه القصبة المفكِّرة -كما وصفها «باسكال»- لا تملك الكثير من أمر وجودها واستمراره. لذلك يكون حرياً بها أن تفيد من نعمة الفكر والوعي التي تملكها، لكي تقبل بحذر ما يقع لها، ولكي تتفادى ما يمنع عنها حدة الرؤية وصفاء الذهن. كل ذلك من أجل أن تتفحص شؤون الوجود الإنساني، لعلها – أي القصبة المفكِّرة - تفهم شيئاً، فتسجله أدباً ينفع البشر الآخرين، ومهما بدا هذا العمل تافهاً على مستوى الزمان البشري، فهو آخر الأمر، مثل قطرة ماء من محيط لا نهاية له، قطرة تضم كل مكونات هذا المحيط وأسراره في حيزها الصغير. وكذا الأديب قطرة في محيط البشرية... هو منه وهو المعبر عنه. وفي ذلك كفاية عظمى وشرف أعظم». وهو سؤال مشروع لأي إنسان، وليس وقفاً على الأديب وحده. هل بوسع المرء أن يرسم تصميماً متكاملاً لحياته؟ فإن حصل، وتمّ رسم المخطط، فهل يسير عليه كما رسمه؟ أو للدقة، هل سمحت له الحياة بالمضي فيه، كما خطط له؟ عن نفسي أقول - إن سمح لي القارئ بمشاركته القول - لا أرى لي خطة رئيسة سارت كما أردت لها، فدائماً ما ألجأ إلى الخطة البديلة (ب)، والأخرى (ج)، ولا مانع من الدال والهاء والواو، كحروف أبجدية لخطط استبدالية، حتى تعلمت درسي مع الأيام جيداً! تعلمت أن أبدأ بالخطة (ب) اختزالاً للوقت والجهد والإحباط، وكل (ب) يمكن الاقتناع بأنه (أ)، ولو سئل الإنسان عن حياته، وهل سارت كما تصورها؟ فالجواب بالنفي هو الأقرب والأعمّ، على أنه لا يعني اختفاء الملامح الأساسية مما تمناه المرء لنفسه، فدائماً سيكون هناك شيء من أحلامه وسذاجاته، ولكنها لن تبدو تماماً كما تمنى لها صاحبها أن تكون. قيل إن لا شيء مميزاً إلاّ ويأتي بصعوبة وطول انتظار، فهل هي مقولة متداولة لمبدأ أصيل في الحياة يسري على الكل؟ أم أن من اخترعوها وتبنوّها هم في مجموعهم كائنات لم تحصل على رجائها، فمنّت النفس بالحكمة ترفّعاً وعزاءً؟ تقويمنا المستمر لحياتنا عمل يتم في العزلة - الفكرية على الأقل -، وهذا الانفراد مع النفس عادة ما ينتهي بابتسامة ساخرة من حماستنا القديمة، وعشمنا الذي بالغنا فيه، مأخوذين بغرور ما اعتقدنا أننا نستحقه وسنصل إليه، فإذا بالدنيا تجيبنا على طريقتها وبطريقتها. وللتأكيد، فإن عفوية الابتسامة الساخرة لا تعني أننا لم ننجز، بل على النقيض، لربما بلغنا أبعد مما رسمنا له، ولكن براءة تفكيرنا الأوليّ كانت الأجمل، وهي التي كانت تضفي على الأشياء متعتها... وهذه البراءة يصيبها الخدش والتمزق أحياناً، ذلك أننا نحتاج إلى البراءة كي نتعمق، وإلى العمق كي نحافظ على براءتنا، ولا يُبقي على التوازن بين المعرفة بالناس وبالأقدار على مدار العمر، وبين الاستمتاع القديم قبل التنقيح والتعديل الذي يطرأ على النفس كلما غاصت في الدنيا أكثر... لا يصدر هذا التوازن إلا عن روح متسامحة، وصدر رحب، عرفا كيف يتعايشان مع ضعاف النفوس وخذلان الأيام. تقول الروائية الإنكليزية ماري إيفانس المشهورة بالاسم القلمي جورج إليوت: «اختبر كلماتك جيداً، وستكتشف أنك لا تفصح عن الحقيقة حتى وإن اختفى الدافع إلى الكذب، ذلك أن من الصعب أن تعلن عما تعرف كما هو. دع عنك التعبير عن مشاعرك كما هي!». وسؤالي: هل نعترف لأنفسنا بما نشعر به ونعتقد فيه الحقيقة، أم أننا تعودنا على الاختباء حتى من أنفسنا؟ ولذلك ففنّ الأدب عظيم، لأنه يعبر عما عجزت أنت عن صياغته، ففيه سجل حافل باختيارات البشر وبقية من أحلامهم، فمن مهمات الأدب أن يقول ما لم تتفوه به، لينتزع منك ابتسامتك الساخرة وإن قاومتها، ويذكّرك ببراءاتك الأولى وإن أنكرتها! [email protected]