ظل الروائي العربي إبراهيم الكوني على مدى العقود الثلاثة الأخيرة التي ظهر فيها روائياً له لونه الخاص، حاضراً بروايته، محتجباً بشخصه عن الصحافة كما عن الفضائيات التي لم تترك بيتاً معروفاً إلاّ ودخلته بحثاً عن «أسرار» ساكنه، ولا اسماً معتزلاً إلاّ وأخرجته من عزلته». وبعد أكثر من سبعين عملاً كتبها هذا المعتزل في مغتربه الأوروبي، وشاعت وانتشرت بالعربية، كما بلغات أخرى، أطل الكوني الإنسان، بشخصه وبفكره المحرك لعمله الفني، إطلالتين من فضائيتين عربيتين لم يفصل بينهما سوى أسبوعين.. كانت الأولى من خلال «زيارة خاصة» عبر «الجزيرة»، والثانية عبر «إضاءات» قناة «العربية». ولم يفصل بين «استطلاع» زيارة «الجزيرة» و «استجواب» تركي الدخيل، من حيث طبيعة الحديث ومحاور الأفكار التي دار حولها شيء كثير أو كبير. فمن خلالهما قدم الكوني نفسه: كاتباً ومفكراً متعالي الوجود، مختزلاً تأملاته في الحياة والإنسان والكون والوجود الإنساني والحضاري بعبارات قصيرة، هو الذي قدمها قبل اليوم في صفحات من رواياته كان معها في كل مرة (وكل رواية) يجد ما يمكن أن يضاف، فيشكل إضافة الى ما كان قال من قبل. فعزلته في المدينة الأوروبية، وحياته المنقطعة للبحث والتأمل، واستعاداته المتوالية لحياته الأولى( بين الطوارق الذين انحدر منهم)، وتفسيراته لتلك المعاني بروح ورؤية جديدتين... هذا كله كان أن كرس عنده، كما بدا من حديثه، ما يمكن تسميته ب «يقين الاكتشاف» من خلال ما تنكب من سبل المعرفة، فأخذه «عرفانه الخاص» في طريق ليس من السهل على المرء المشي عليها باطمئنان، أو من دون أن يعاني الحيرة بين «رؤياه» و «وجوده»، أو بين «سنن» حياته وتفكيره وما عرفه تاريخ الإنسانية من سنن الخلود. لذلك لم يتوان الكوني في حديثيه عن «الشطح» في ما صدر عنه من كلام. ولم يتكلم في ما يتكلم فيه الروائيون عادة (من فن الكتابة، وأساليب السرد الروائي، وفانتازيا التكوين، وحداثوية البناء الروائي) بل تكلم في الفكر والأفكار في الرواية وكأنها بناء فكري أولاً، الهدف منها زلزلة بعض الثوابت وتحريكها باتجاه تكوين معرفة أكبر وأوسع، جاعلاً من الإنسان مركزها، ومن الوجود الكوني فضاءها الذي تتحرك فيه. ومن هنا ما يشيع في رواياته «كلام» هو أقرب الى جوهر الفلسفة منه الى الأدب وروح الفن، وألصق بتسبيحات الفكر واستجابات العقل منه بسبحات ما ندعوه بالخيال الروائي. وكما لم يصل إبراهيم الكوني الروائي في كثير مما كتب الى جمهور واسع من القراء العرب، بل والنقاد أيضاً، بفعل «الاختلاف الروائي» الذي عليه روايته، فإنه ربما لم يتواصل حديثاً، في الظهورين، مع كثر من المشاهدين العرب الذين ربما وجدوا في حديثه ما يتطلب استدعاء الفكر وإجهاد العقل لتلقيه واستيعابه، وليس الإصغاء العارض كما اعتادوا أن يفعلوا مع سواه. ويبقى السؤال: هل إن إبراهيم الكوني، الإنسان والروائي، في ظهوره هذا كسر محيط العزلة التي هو فيها منذ سنين وسنين، لينفذ إليه قارئه بسهولة ويسر، أم إنه زاد هذا المحيط إحكاماً؟