يتحدث هاني (22 سنة) مع سائق تاكسي بلهجة مصرية صِرْف. وعندما يصل الى شقة أصدقائه اليمنيين يتحول هاني 180 درجة، متحدثاً معهم بلهجة يمنية قحّ، هي لهجة محافظة إب، وسط اليمن. يعيش هاني مع والدته في أحد أحياء شرق القاهرة، وهو يمثل نموذجاً لجيل جديد من الأبناء المولودين من أب يمني وأم مصرية. وخلافاً لأحمد باخريبة الذي لم يتخلص تماماً من لهجة والدته التي فارقها قبل أكثر من 20 سنة، ليعيش مع والده في اليمن، يُظهر هاني اعتزازاً بهوية والده ولهجته، مؤكداً أن انتماءه الى اليمن يأتي أولاً، على رغم حصوله على الجنسية المصرية. ويعكس انحيازه إلى هوية الأب استمرار هيمنة الثقافة الذكورية في المنطقة العربية. ووفق مصدر في السفارة اليمنية في القاهرة، فإن حوالى 16 ألف شخص من المولودين لأب يمني وأم مصرية حصلوا خلال السنوات الخمس الأخيرة على الجنسية المصرية. وترتبط قضية الأبناء المولودين لأب يمني وأم أجنبية، أو العكس، بهجرات اليمنيين المستمرة منذ القِدَم. لكنها ما فتئت تميط اللثام عن معاناة اجتماعية وسياسية بسبب التأرجح بين هوية كل من الوالدين. وتزداد المعاناة مع الأبناء من أب يمني وأم أفريقية. وهؤلاء كانوا وما زالوا الأكثر عرضة للتمييز الاجتماعي والسياسي بسبب لون البشرة. ويُعد الكاتب اليمني الراحل محمد عبد الولي (من أب يمني وأم أثيوبية) أحد الأوائل الذين ذاقوا مرارة التأرجح بين هويتين، وهي التجربة التي جسّدها في رواية «يموتون غرباء»، موجهاً نقداً لاذعاً إلى الآباء المتسببين في معاناة الأبناء. غير أن الكاتب كرّر الفعل ذاته الذي ينتقده، عندما تزوج يمنية وأخرى سويدية وأنجب أبناءً موزّعين على البلدين. وكانت الحاجة الاقتصادية وراء هجرة كثيرين من اليمنيين إلى أصقاع شتى، خصوصاً الى منطقة القرن الأفريقي وشرق آسيا، وبعضهم تزوج في تلك البلدان. ولدى عودتهم الى الوطن في شكل نهائي، كانوا يصطحبون أبناءهم معهم... حتى لو رفضت الأم المجيء. ولئن شاع هذا السلوك لدى المهاجرين الأوائل، وغالبيتهم من غير المتعلمين ومن المتديّنين المحكومين بتقاليد اجتماعية ودينية، فإن الجيل الجديد من اليمنيين الذين تزوجوا أجنبيات أثناء دراستهم في الخارج يُبدي انفتاحاً يتفاوت وفق الثقافة. وإذا كان يحيى ترك زوجته وابنه في روسيا، فإن ذلك لا يعني انفصام العلاقة بينهما. فقبل سنوات، جاء ابنه الاسكندر (15 سنة) إلى اليمن لزيارة والده الذي يزور بدوره روسيا بين حين وآخر. وهو على تواصل دائم مع أفراد عائلته عبر مواقع الدردشة الإلكترونية، من دون أن ينسى واجباته تجاههم في إرسال بعض المال، وهو يراه «التزاماً أخلاقياً وليس قانونياً». وتمثل علاقة يحيى بأسرته حالاً نادرة، وهي تنتمي إلى ما يسمى «الزواج الايديولوجي»، ويُقصد به تزوج بعض اليساريين الذين سافروا إلى بلدان «المعسكر الاشتراكي» سابقاً، من فتيات في تلك البلدان في صيغة تجمع بين الحب والميول السياسية. وذلك خلافاً لجيل الآباء والأجداد الذين هاجروا لأسباب اقتصادية واضطروا الى الزواج في بلد المهجر «تحصيناً للنفس» أو خشية الدخول في علاقة غير شرعية. وفي كل الحالات، غالباً ما يؤدي هذا النوع من الزواج إلى ظاهرة «الأخوة غير الأشقاء» الذين ينتمون الى أب يمني وأمهات من جنسيات مختلفة، أو العكس، وأحياناً ما يُشتت هؤلاء بين دول مختلفة. ويقول هاني ان لديه إخوة غير أشقاء من زواج والده بسعودية وأخرى يمنية، مؤكداً أن علاقته معهم جيدة، خصوصاً مع أخيه (من زوجة أبيه السعودية) الذي يساعده في كل مرة يزور فيها القاهرة. وتترك حال التأرجح بين الأب والأم آثاراً سلبية على بعض الأشخاص، مثل هاني الذي ترك الدراسة مبكراً... ليعيش كيفما اتفق. إلى ذلك، يُتهم اليمنيون بالعنصرية والذكورية. فقد جاء في دراسة لباحث صومالي على الانترنت أن المهاجرين اليمنيين الذي قطنوا الصومال حملوا معهم ثقافتهم العربية التمييزية لجهة عدم زواج المرأة العربية برجل «أعجمي». ووفق الدراسة التي تناولت الجذور الاجتماعية للجالية اليمنية، فإن الأبناء من أب يمني وأم صومالية، والذين هربوا من الحرب الصومالية الى اليمن في تسعينات القرن العشرين، قوبلوا بنظرة تمييزية تعتبرهم من فئة الخدم، بسبب لون بشرتهم، ما اضطر بعضهم إلى العودة الى الصومال. ربما كان رفض زواج اليمنية بأجنبي شائعاً في الماضي، لكنه بات يشهد تحولاً شيئاً فشيئاً، إذ سُجّل خلال السنوات العشر الأخيرة ارتفاع في نسبة اليمنيات المتزوجات من أجانب. ويعود ذلك تقريباً الى انتشار التعليم بين الإناث وخروجهن الى العمل، ووجود كثيرين من العرب والأجانب في اليمن للعمل أو للدراسة. وخلال السنوات الأخيرة، ارتفع عدد الاتراك الذين تزوجوا يمنيات. وتقول رضية التي تقيم مع زوجها في مدينة أنطاكية التركية، إنها أنجبت بنتاً ولا تشعر بغربة. وكان قانون قانون الجنسية شهد عام 2010 تعديلاً يعطي اليمنية المتزوجة بأجنبي حق منح الجنسية اليمنية لأبنائها، إلا أن يمنيات تقدمن أخيراً بشكوى من عدم استجابة وزير الداخلية لطلباتهن على رغم الفترة المقررة للرد. وتتغلغل الثقافة التمييزية في المجتمع اليمني، وأحياناً تُستخدم ألفاظ مثل «يا دكنلي» و «يا مولد» و «يا هندي» و «يا تركي»... بغية التحقير أو للشك في ما يُعتقد بأنها أصول يمنية خالصة. وقلما حاز المولودون على مناصب سياسية رفيعة. ومعارك الأصول هذه امتدت أخيراً إلى الوسط السياسي، إذ اتُهم رئيس الوزراء بأنه من أصول صومالية. وكان الراحل عبدالرحمن البيضاني، نائب رئيس الجمهورية في ستينات القرن العشرين، أقام دعوى ضد كتّاب شككوا في أصله اليمني واتهموه بأنه من أب أفغاني وأم مصرية، فضلاً عن تخوينه لطروحاته السياسية حينها.