مثلما أن الموت علينا حق، فإن القصاص علينا حق، لكن الحق ليس من مسلمات العصر. مسلمات العصر الداعية إلى الهدوء حتى يتمكن الرئيس من العمل، والمعارضة للتظاهر حتى تتمكن العجلة من الدوران، والمؤكدة على أجواء الثورة الاحتفالية حتى تتمكن تيارات بعينها دون غيرها من السيطرة على البلاد من دون منغصات ينظر إليها البعض باعتبارها مصائب العصر. فمن مصيبة أحداث محمد محمود الأولى إلى النسخة الثانية من الأحداث، ومن مذبحة ماسبيرو إلى فاجعة مجلس الوزراء، ومن مجزرة بورسعيد إلى قتل متظاهري السويس والإسكندرية والقاهرة، يتحرك قطار القصاص تاركاً حق الشهداء حاصداً المزيد منهم متجاهلاً نتائج لجان التحقيق متربصاً بالملتاعين من أصحاب الحقوق المسلوبة والحقائق المذكورة المنسية في التقارير. لكن التقارير فقدت رونقها واللجان سُلبت هيبتها لدى الرأي العام. مناقشة ساخنة جرت وقائعها في داخل عربة مترو الأنفاق لخصت موقف رجل الشارع تجاه اللجان وتقاريرها. تدخل أحدهم في حديث هامس بين راكبين عن لجنة تقصي الحقائق وتقريرها الأخير معلناً بصوت جهوري: «التقارير، وما أدراكم ما التقارير! لجان تقصي حقائق، وفرق تحقيق وجمع معلومات، وخبراء تحقق من معلومات، واختصاصيو كتابة وتنقيح، وأساتذة كتابة وصياغة! ومراسم تسليم وتسلم! وأدراج للحفظ والأرشيف»، وهو ما ثمنه الجميع وأومأوا برؤوسهم إيذاناً بالموافقة. وانخرط الجميع في «حوار وطني» متأجج انتهت جلسته العاصفة بنتيجة دينية حتمية ألا وهي أن «في القصاص حياة». النتيجة التي خلصت إليها مجموعة عربة المترو هي نفسها التي تؤمن بها وترفعها مجموعات وتيارات ناشطة وأهالي شهداء وحدت صفوفها وشحذت همتها تحت شعار «القصاص علينا حق». المجموعة اتخذت لنفسها اسم «وراكم (وراءكم) بالتقرير»، وهي التسمية التي تنم عن نية ثورية حقوقية شابة لملاحقة من بيده مقاليد تقارير اللجان التي يتحول صخب تشكيلها وصياح عملها إلى هدوء مقيت وسكوت غامض. ورغم أن بعضهم يفضل السكوت أملاً بتساقط الحقوق بالتقادم، فإن آخرين يعمدون إلى الصخب أملاً بالإبقاء على حقوق من راحوا. وتحت شعار «إحنا الصوت لما تحبوا الدنيا سكوت» سيملأ بعضهم محيط دار القضاء العالي صخباً ظهر غد الأربعاء أملاً بلفت انتباه الرأي العام إلى التجاهل الرسمي لتقرير لجنة تقصي الحقائق الثاني، ليلحق بالأول، محملين المسؤولية للرئيس محمد مرسي الذي وعد بالقصاص. ولأن الجميع يترقب يوم النطق بالحكم في قضية مجزرة بورسعيد، باتت كلمة «القصاص» هي الأكثر رواجاً. فبين جدران تحمل «غرافيتي» حديثاً يهدد ب «إما القصاص أو الفوضى»، ومسيرات غاضبة من «ألتراس الأهلي» مذكرة بحق شهدائهم، وأحاديث تختلط فيها نبرة الإسلام السياسي المطالبة بالهدوء حتى يقول القضاء كلمته ونبرة الشارع المتعجبة من دماء الشهداء المتجددة من دون مكاشفة أو مصارحة أو عقاب، تتردد الكلمة كثيراً انتظاراً لتفعيلها. «وراكم بالتقرير» التي تؤكد أن «الشهداء ليسوا أرقاماً» وأن «القاتل مازال خارج الزنازين» تتحدث عن التفعيل الممكن من خلال حقائق ومعلومات متوافرة عن القتلة لكنها لا ترى النور، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من الفوضى وفقدان الثقة بنظام «الإخوان المسلمين». لكن «الإخوان» كذلك يتحدثون أحياناً عن القصاص، وإن كان حديثاً قاصراً على من قتلوا من «الإخوان» في أحداث الاتحادية، ففي منتصف الشهر الماضي وأثناء التجهيز للتصويت ب «نعم» على الدستور، قال القيادي «الإخواني» في الغربية طه أبو زيد وهو والد المهندس خالد أبو زيد الذي استشهد في أحداث الاتحادية إنه سيقول «نعم» للدستور حتى يضمن القصاص من القتلة، وهو ما لم يحدث بعد. يشار إلى أن تغريدة نسبت إلى الرئيس في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي كتب فيها: «اليوم هو بداية القصاص الحقيقي لدماء الشهداء والتي هي أمانة في عنقي»، وهي الأمانة التي عبر عنها في الإعلان الدستوري الذي تضمن إعادة التحقيقات والمحاكمات في جرائم القتل والشروع في قتل وإصابة المتظاهرين. يشار أيضاً إلى أن الإعلان الدستوري سقط بإقرار الدستور الجديد. ومازال المصريون ينتظرون القصاص.